ينصب المقال علي خطايا حكومة الإنقاذ الوطني التي عينها المجلس الأعلي للقوات المسلحة برئاسة د. الجنزوري, وأخفقت بصورة جلية في كل ما وعدت به, وجاء علي رأس أولوياته استعادة الأمن وإنعاش السياحة وتنشيط الاقتصاد. كما فشلت في جميع ما ارتجاه الشعب منها, وعلي رأسه بدء التحرك الجاد صوب نيل غايات الثورة في الحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية. ولكنا لا نخلي المجلس العسكري ولا تيارات الإسلام السياسي الفائزة في الانتخابات التشريعية من المسئولية. فهذه الحكومة تماما كسابقتها, تحيا, وتفشل يوميا, في ظل هيمنة المجلس العسكري. ومجلس الشعب المنتخب قد خيب, حتي الآن, الآمال, حيث انصرفت التيارات الفائزة إلي حصد المكاسب السياسية النفعية, ضيقة الأفق, مهملة الحرص علي اكتمال ثورة الشعب ونيل غاياتها. ولا يوجد ما يبشر بأن مجلس الشوري, حديث الاكتمال, سيبدي سلوكا مختلفا, فالأغلبية القائمة علي السمع والطاعة, أشد هيمنة علي مجلس الشوري. ولم تقدم الحكومة أو أغلبية مجلس الشعب حتي وقت الكتابة خططا جادة لإقالة الأمة من عثرتها التي ابتلاها بها الحكم التسلطي الفاسد. وفي المقال القادم سنلفت النظر إلي رؤية إسلامية تقدمية ومتماسكة لإصلاح الاقتصاد نشرها منذ عقود رائد من رواد جماعة الإخوان العظام لا نجد لها مثيلا في برامج أو أداء التيارات الإسلام السياسي المهيمنة علي الساحة في مصر في الوقت الراهن. بداية, يحق لنا أن نتساءل: هل حصل د. الجنزوري فعلا علي سلطات رئيس الجمهورية؟ نستبعد ذلك. وبناء عليه, فليس فشل حكومته غريبا, خصوصا وأنها تعاني من عوامل قصور ذاتي لا تخفي علي أحد. وإن كان هذا أداء حكومة أعطي لرئيسها صلاحيات رئيس الدولة في ظل المجلس العسكري وسيطرة تيارات الإسلام السياسي علي المجالس التشريعية, فماذا سيكون حال مصر في حال انتخاب رئيس في ظل هيمنة المجلس نفسه, ولو من وراء ستار, وسيطرة تلك التيارات ذاتها علي المجالس التشريعية؟ أغلب الظن أنه سيكرر فشل حكومة الإنقاذ المزعومة. وفي هذا سبب قوي لاستبعاد فكرة الرئيس التوافقي الخبيثة. ونشير الآن باختصار إلي ما نعتبره خطايا في أداء حكومة إنقاذ يتمتع رئيسها بصلاحيات رئيس الجمهورية, وهي سلطات مطلقة في الشأن التنفيذي, وفق الإعلان الدستوري للمجلس الأعلي للقوات المسلحة. الخطيئة الأولي هي بلا ريب تفاقم الانفلات الأمني, بسبب التهاون في تطهير وزارة الداخلية وإعادة بناء قطاع الأمن, بشقيه المدني والعسكري, بكامله, بغرض صيانة أمن المواطنين. وليس غريبا أن استشرت جرائم لم تكن مألوفة في مصر مثل السطو المسلح والاعتداء علي السياسيين, واختطاف السائحين. بينما يدعي رئيس الوزراء ووزير داخليته تحسن الأمن يوميا. وبديهي أن السياحة أضحت الضحية الأولي للانفلات الأمني المتعمد. ولن تقوم لها قائمة, مهما أنفق وزير السياحة علي الترويج بسخاء, من موارد البلد المحدودة, ما ظلت الصحف الأجنبية الجادة تنشر عن الأهوال التي يقاسيها السواح الأجانب والموطنون في مصر بسبب الانفلات الأمني. وبهذا خسر حكم الإنقاذ الوطني المعركة في أولويتيه المعلنتين: الأمن والسياحة سويا. الخطيئة الثالثة, وليست منفصلة عن الفشلين السابقين, هي الفشل المطبق في تنشيط الاقتصاد الذي تركه الحكم التسلطي الساقط مهلهلا ومنهوبا. وأصل الداء هنا هو أن المجلس العسكري ورؤساء حكوماته, والأغلبية التشريعية, قد غاب عنهم رؤية متماسكة, تسندها قدرة قيادية جسور, لتعبئة طاقات مصر في مشروع قومي للنهضة الإنسانية يقوم علي تعبئة الطاقات الذاتية وتوظيفها بكفاءة. علي العكس, غلب علي المجلس العسكري وحكوماته المتعاقبة عقلية صراف الخزينة الذي وقع علي خزينة ملقاة علي جانب الطريق وأصبح كل همه كيف ينفق ما بها, مع العمل علي زيادة محتواها, ولكن أساسا من خلال الجباية من المستضعفين والاستجداء والاقتراض من الخارج, مع استمرار الإنفاق المبذر للحكم التسلطي علي أغراضه الخاصة, وبعضه سفيه بجلاء. وحيث افتقد حكم الإنقاذ الرؤية والقيادة, لجأ إلي العويل والولولة لترويع الشعب. فظل المجلس العسكري يردد عبارة مصر لن تسقط ويروع الشعب بمؤامرات مزعومة, بينما أحوال مصر وشعبها تتردي باطراد. وأضاف إليها رئيس وزراء المنقذ, وكاهنته الأولي إنهم يعاقبوننا, ولكن.... ولم يتمخض أي من ادعاءات المؤامرات عن نتائج ذات مصداقية, بل سعت السلطة الانتقالية لتناسيها أو التعمية علي التراجع عنها سياسيا, ولو بالتدخل السافر في القضاء من خلال تابعيها في مناصب القضاء العليا. وما برحوا يقولون هذا دون وعي بأن مصر لن تهون أو تسقط, لا قدر الله, إلا بسوء الحكم كما حدث في ظل الحكم التسلطي الفاسد الذي قامت الثورة لإسقاطه. من معالم تردي أحوال المصريين, وهذه هي الخطيئة الخامسة, تعذر حصول غالبية المصريين علي السلع الأساسية بيسر وجودة وأسعار مناسبة. ويرتبط بهذا استشراء الغلاء مع ركود دخول الغالبية الساحقة بسبب امتناع الحكم عن إصلاح هيكل الأجور وغيره من مقتضيات إقامة العدالة الاجتماعية. وإن لم ترتفع أسعار بعض السلع رسميا, تعذر الحصول عليها فعلا إلا بتكلفة أعلي عدة مرات كما في حال أنابيب البوتاجاز, أو خفض المنتجون أو البائعون من الكمية المبيعة, أو قللوا من جودة السلعة, وكلها وسائل ملتوية لرفع تكلفة المعيشة علي السواد الأعظم من المصريين. يحدث هذا بينما حكومة الإنقاذ ووزير التموين والتجارة, لا يكلون من الإدلاء بالتصريحات الوردية والتهرب من المسئولية بأعذار شتي. بالطبع لا يتوقع أحد أن نقضي علي تركة الحكم التسلطي الثقيلة من الظلم الاجتماعي في وقت قصير, ولكن كل المطلوب أن تنجز حكومة الإنقاذ بدايات جادة في مجال واحد مهم علي الأقل, وياحبذا لو كان العدالة الاجتماعية, وتضع خطة معلنة, وتوقيتات تلتزم بها, للإنجاز في باقي المجالات, ويراقب المجلس التشريعي تنفيذها بكفاءة. ولكن يظهر أن حكم الإنقاذ هذا ليس له من هم إلا الإبقاء علي مزايا القلة القليلة المتنفذة والظالمة للأغلبية الساحقة المطحونة. وبسبب حرج موقف السلطة الانتقالية النابع من فشلها, كان من الضروري ضمان تغطية إعلامية تزيف الحقيقة والوعي, ولو كانت مرائية مفضوحة. وهكذا تردي الإعلام الرسمي للسلطة, لاسيما الإذاعة, المسموعة والمرئية, إلي حضيض النفاق المكشوف للسلطة حتي صار الذوق الحسن والمنطق السليم يعافه تقززا. ونتيجة لقلة حيلة السلطة, وتخبطها, بادر واحد من قادة السلفيين باقتراح عنتري بتبرع المصريين الغلابة المطحونين لسد العجز الناتج عن احتمال نكوص الولاياتالمتحدة عن المعونة التي اعتادت تقديمها لمصر, وغالبيتها الساحقة لأغراض عسكرية, بسبب المؤامرة التي زعمتها السلطة بخصوص تجاوز مزعوم من بعض منظمات المجتمع المدني وصعدتها حتي القضاء ثم عادت للتراجع عنها تحت ضغط مانحي المعونة. ما يعنينا هنا هو أن إخفاق الحكم في مهامه الأصيلة, ومنها تدبير الموارد البديلة في حال غياب مفاجئ لمورد ما, يغري بمحاولة استملاك وظيفة الحكم من قبل غيرها من القوي المتنفذة في البلد. وما يعنينا أيضا في ضوء غايات الثورة, أن السيد السلفي, ومن تبعه حتي رئيس الوزارة وبعض النواب متبعي السلطة, أي سلطة, لم يتوجه لأثرياء البلد وأباطرة الفساد الفاجر للتبرع, أو بفرض ضرائب واجب الوطنية, وهم الذين كانوا دائما يرتعون ويثرون من أموال المعونات, وإنما وضع أعباء أثقل علي المستضعفين البسطاء, الذين يستميلهم الإغواء بالإسلام, ما يشي بنفور واضح من إقرار العدالة الاجتماعية, وتوظيف غير حميد للإغواء الديني. وليس في الإسلام القويم بالمناسبة, من وظيفة داعية, فليس في صحيح الإسلام لا كهانة ولا كهنوت, ومن نعم الله علي المسلمين أن علاقة العبد بالرب مباشرة لا وساطة فيها. فهل ترحم السلطة الانتقالية الراهنة, المجلس الأعلي للقوات المسلحة ومجلسي الشعب والشوري, حكم الإنقاذ, الميت سريريا, بإطلاق رصاصة الرحمة, أو أنها, كما اعتادت, ستخطئ الهدف, جريا وراء مغانم سياسية وقتية, وتسعي لوأد أمل الشعب في اكتمال ثورته العظيمة, ولو إلي حين؟ إن تقاعسا كما ينتظر, يبقي تعويلنا دائما علي الشعب, صاحب السيادة ومناط الشرعية الأسمي, لضمان وفاء السلطة الانتقالية, الحالية, أو أخري قادمة, بحماية ثورة شعب مصر واكتمالها بنيل غاياتها. المزيد من مقالات د . نادر فرجانى