حظيت تونس منذ أيام قليلة برئيس جمهورية، ورئيس وزراء، ورئيس جمعية تأسيسية لوضع الدستور الجديد. والثلاثة ممن فازوا في انتخابات حرة ونزيهة للاختيار الشعبي للجمعية التأسيسية لجمهورية جديدة تضمن الحرية والعدل والكرامة الإنسانية لجميع أفراد الشعب من خلال الحكم الديمقراطي الصالح. وكان ثلاثتهم من المعارضين الأشداء للطاغية الهارب بن علي، وجاء اختيارهم للمناصب نتيجة للتوافق السياسي الناضج بين ائتلاف الأحزاب الفائزة في الانتخابات، على الرغم من تنوع التوجهات السياسية للأحزاب المؤتلفة على مدى يتراوح بين الإسلام المستنير واليسار المعتدل. وبقدر ما يثلج الصدر أن نزجي التهاني لشعب تونس الشقيق على بوادر جادة لاكتمال ثورة الياسمين الرائعة، بقدر ما يحز في النفس أن نجد ثورة الفل العظيمة في مصر تدهس تحت أقدام أولى الأمر والتنافس الأعمى على المغانم السياسية ضيقة الأفق من قبل القوى السياسية المتناحرة على الساحة المعيبة التي خلقها، مشوهة عمدا، الحكم السيء للمجلس الأعلى للقوات المسلحة. وقد حان الوقت لأن يعلم هؤلاء جميعا أنهم يتنافسون على حطام بلد، يحطمونه الآن بأفعالهم النفعية ضيقة الأفق وعمياء البصيرة، ويتنافسون بالأساليب العقيمة ذاتها على إتعاس شعب، قدم لبلده واحدة من أنقي الثورات الشعبية وأروعها، أبهرت العالم جميعه وألهمت جميع المستضعفين في الإقليم وفي العالم أن يتأسوا بها. ومع ذلك، وعلى النقيض من تونس الشقيقة، نرى مصر تتخبط في ظل الحكم التسلطي غير الرشيد ولا نرى نورا في نهاية النفق، ما استمر الوضع الراهن. وسيشهد التاريخ أن المسئول الأول عن تحطيم البلد وإتعاس الشعب هو المجلس الأعلى للقوات المسلحة وحكومتة الذلول والفاشلة بجميع المعايير، باعتبارهما يمسكان بمقاليد السلطة التنفيذية والتشريعية، مطلقتين بلا رقيب أو حسيب. ولنا في الأحداث التي بدأت يوم السبت الدامي 19 نوفمبر عبرة، وقد تعدى عدد المصابين حتى وقت الكتابة يوم الإثنين الألف وسقط عشرات الشهداء ضحية قمع المجلس العسكري وحكومته لاعتصام سلمي لعشرات من ضحايا الثورة وأسرهم بالعنف المفرط. ألا يخجلون، المجلس العسكري وحكومته الذليلة وشرطته الفاشلة في حفظ الأمن، من التعدي على قلة من ضحايا الثورة المعتصمين سلميا، احتجاجا على هضم أولي الأمر لحقوقهم مع الإدعاء بحمايتهم وتكريمهم؟ لقد غابت شرطة العيسوي وشرطة المجلس العسكري عن ميدان التحرير يوم الجمعة الماضي، متنصلين من مهمتهم الأصلية في الحفاظ على الأمن مع احترام حقوق المواطنين، فمر اليوم بسلام على الرغم من وجود مئات الآلاف من المتظاهرين. ولكن ما إن عادت شرطة العيسوي إلى الميدان يوم السبت لفض اعتصام ضحايا الثورة، من دون تفاوض أو تطمين من مسئول، حتى تفجر العنف. ما يؤدي إلى الاستنتاج الوحيد المنطقي بأن الشرطة، التي ماظلت فاسدة، ويرفض المجلس العسكري وحكومته الذليلة إصلاحها، لغرض “في نفس يعقوب”، هي مصدر العنف وسببه. لقد بات جليا أن منصور العيسوي وشرطته ليسوا إلا استنساخا لحبيب العادلي وشرطته العفنة، مع قدر من التجميل الشكلي المفضوح وإدعاء زائف من المجلس وحكومته بالصلاح والاستقامة! حتى وثقّت التقارير الإخبارية ضلوع أفراد الأمن، بملابسهم الرسمية، في إتلاف الممتلكات التي لا ريب سيتهم بها المتظاهرون العزل، كما اعتادت شرطة الداخلية تلفيق الاتهامات للأبرياء، ووثق الإعلام المحلي والدولي كذلك إطلاق شرطة العيسوي الذخيرة الحية على المواطنين متعمدة التصويب على أعين الإعلاميين، ما يدحض كذبهم الأشر بضبط النفس. وزاد على جرمهم معاملتهم البربرية لجثث الشهداء بما ينزع عنهم الشرف والدين كليهما. وزاد الأمر جورا أن التحقت بشرطة العيسوي شرطة المجلس العسكري في العصف بالمتظاهرين الذين هرعوا لنجدة ضحايا العنف الرسمي. وفوق ضرر وزارة الداخلية المعطوبة، وتجاوزات الشرطة العسكرية المتكررة، نجد السيد رئيس وزراء المجلس العسكري كعادته كلما ارتكبت حكومته مصيبة، يخرج متقمصا شخصية “الست أمينة”، زوجة “سي السيد” المستبد المفتري في ثلاثية نجيب محفوظ الشهيرة، مطالبا الشعب بالحفاظ على الثورة التي تطعنها حكومته في الظهر كل يوم. وظني أن “أمينة” كانت ستكون أشد حزما وأكثر فعالية كرئيس لوزراء مصر، وكما يعتقد العامة أن “ربنا على المفتري” فربنا يهد “سي السيد”! لقد طلع علينا اللواء الفنجري، الذي تحول بقدرة قادر من الوجه المحبب للمجلس العسكري إلى واجهة المجلس الجهِمة التي تتوعد الشعب بالويل والثبور، في بداية الأحداث الدامية بالقول بأن المعتصمين بالتحرير ليسوا الثمانين مليون مصريا، فزاد النار اشتعالا. وإن كان هذا الزعم صحيحا بالمفهوم العددي القاصر فإنه لا يعني أن غالبية الشعب تعارض مواقف المعتصمين العادلة، ولا يخوِّل السيد اللواء ومجلسه، على أي حال، الحق في التعامل معهم بالعنف المفرط المُجرّم دستوريا ودوليا. وإن إتبعنا منطق الفنجري، فلنا أن نقول له أن جيش مصر العظيم أكبر كثيرا من أعضاء المجلس العسكري، ولعله، وأعضاء المجلس كلهم، لا يضعونا في موقف أن نتمنى أن يرحمنا الجيش المصري العظيم من تسلط المجلس العسكري وعناده المكابر في الحق. ولعل الأهم أن نتمعن في كم تعددت الأيام الدامية في مصر تحت حكم المجلس وحكومته؟ فنكاد لا نفيق من الذكرى الأليمة ليوم دام، من دون وفاء المجلس وحكومته بالوعد بتحقيق نزيه عاجل وعقاب المسئولين، حتي يصدمنا يوم دام آخر تتسبب فيه شرطة العيسوي أو شرطة المجلس أو كليهما، ولا يمل المجلس من اتهام جهات أخري داخلية أو خارجية، على الأغلب خافية، لا يدلنا عليها أبدا ولم يقدم أحدها لتحقيق نزيه عاجل وعادل. وحتى عندما اتهم أحد أعضاء المجلس حركة 6 إبريل جهارا، أسفر التحقيق عن زيف الإدعاء، ولم نسمع من السيد اللواء المدعي اعتذارا واجبا ما يوحي بأن هذه الاتهامات جزافية ولا هدف لها إلا تبرئة المجلس ومحاولة تنصله من المسئولية عن الأحداث الدامية المتكررة. أوليس تكرار الأيام الدامية والفشل في منعها في حد ذاته مبررا للاعتذار والإقالة، إن عزت الاستقالة؟ في النهاية، فليقل لنا المجلس العسكري ماذا يريد، صراحة وجهارا؟ إن كان المجلس العسكري يطمع في تأسيس حكم عسكري وارستقراطية عسكرية تتسيد باقي الشعب، فلينس! فلن يسمح شعب مصر الأبي بالعودة إلى نظام حكم سياسي أسوأ مما قامت الثورة العظيمة لإسقاطه. ومن المطمئن أن هذا هو موقف جميع فئات الشعب، وحميع التيارات السياسية التي ترفض أن تنتهي الثورة العظيمة بهذه السقطة، بما في ذلك تلك التيارات التي يظن المجلس أنه يستطيع ضمان موالاتها له لأسباب لا تخفى على لبيب. ولسوف يعاقب الشعب أي تيار سياسي يتواطؤ مع المجلس في هذا الغرض البائس المضاد لغايات الثورة الشعبية على الحكم التسلطي. وعلى أشباه المثقفين الذين يروجون لحكم عسكري، وبلغ بهم التزلف للعسكر أن يطالبوا بفرض الأحكام العرفية أن يتقوا الله في البلد والشعب، وأن يتبينوا أن مصر ترزح فعلا تحت حكم عسكري منذ تنحي الطاغية وأن ما فعله الحكم العسكري بمصر وبشعبها الطيب في هذه الفترة لا يرشحه لحكم البلاد لأطول من ذلك. ولينس المجلس العسكري أيضا أنه يمكنه أن يعتمد لنيل أغراضه من الاستئثار بالحكم تسلطيا أثناء هذه الفترة الانتقالية على موالاة تيارات سياسية أفسح لها الساحة المجتمعية والسياسية, وقد تغلب في الانتخابات الابرلمانية التي يعضون عليها بالنواجذ، فقد صار جليا للمجلس ولهذه التيارات نفسها أن التنافس الأعمى على المغانم السياسية قد فرط عقد أي حلف محتمل بينهما، وقد صار واضحا لكل ذي بصيرة أن الطرفين كليهما لا يستطيع أن يمنح الآخر ثقة مطلقة أو صكا على بياض، وهذه طبيعة التناحر السياسي ضيق الأفق ومنعدم البصيرة. بل إن هذا الاقتناع نفسه، والتفكك ذاته، قد أصاب معسكر التيار الإسلامي المتشدد الذي كان يظنه البعض متماسكا عصيا على الانهيار، وللأسباب نفسها. أما إذا كان المجلس العسكري يريد حصانة من المساءلة عن تجاوزٍ ما اقترفوه، فليفصحوا عن ما يريدون الحصانة عليه، ويعتذروا للشعب عن ما بدر منهم، ويعوضوه عن ما أصابه من خسائر من جراء ما اقترفوا، ويعدوا بعدم تكراره، وللشعب بعد ذلك أن يقرر. ويقيني أن الحس الشعبي سيمنح تلك الحصانة، تحت هذه الشروط. وقد نلتمس بعض العذر لتيارات الإسلام السياسي المتشدد، بسبب تحرّقها الكاوي للسلطة بعد طول حرمان من ممارسة حقوقهم السياسية في ظل الحكم التسلطي الساقط، دون أن يعني ذلك أن نغفر لهم الذنوب التي ارتكبوا بسبب شبقهم للسلطة بما في ذلك ممالأة المجلس العسكري والاستقواء والاستكبار على باقي القوى السياسية، بما في ذلك الإسلامية منها. وحتى لانبتسر الطيف السياسي في الثنائي العسكري-الإسلامي، لا نبرئ من التنافس الأعمى المدمر باقي التيارات السياسية المسماة بالليبرالية واليسارية، خاصة أحزاب المعارضة الشكلية التي نشأت في العهد الساقط وفي كنفه. فقد شاب مواقف هذا المعسكر، كما مواقف معسكر التيار الإسلامي المتشدد، التنافس التناحري الأعمى وغابت تماما عند الطرفين، مواقف الحوار الجاد والمستنير والتآلف الوطني الكفيلة بإقالة الوطن من عثرته الراهنة. ويقينا لن تفضي أنماط السلوك السياسي المعيب هذه إلا إلى تحطيم البلد الطيب وإتعاس شعبه العظيم. وما ذا سيتبقى لأي تيار سياسي حينها من مغنم إن فاز في انتخابات أو استولى على الحكم بشكل أو آخر؟ نهاية، لا خلاص لمصر ولشعبها العظيم من المأزق الراهن الذي يجرهما إليه هذا التناحر الأعمى إلا ببراء جميع الأطرف السياسية في مصر، لا سيما المجلس العسكري وحكومته الذلول، من داء النفعية الأنانية، والتوحد لخدمة غرض اكتمال ثورة الفل العظيمة ونيل غاياتها النبيلة. وقد يكون الحل المرحلي هو ما تقدمت به طائفة من الشخصيات العامة، والمتظاهرون في الميدان، مؤخرا اي تشكيل حكومة إنقاذ وطني، كاملة الصلاحيات، وليست مجرد سكرتارية باهتة للمجلس العسكري، تماما كما كانت وزارة أحمد نظيف للطاغية المخلوع، وخلافا لوزارة ” الست أمينة” الحالية، بقيادة شخصيات مشهود لها بالكفاءة والمقدرة وتعاطفها مع اكتمال الثورة، وتشكيل مجلس رئاسي يضم إلى جوار ممثلين للمجلس الأعلى للقوات المسلحة مدنيين من الصنف ذاته، يحمون البلا والشعب من مغبة قلة دراية العسكريين بالسياسة التي أوصلتنا إلى حالة الإنهيار الراهنة، وتنذر بأسوأ قادم. ولا يجب أن يعتد هنا بأن مثل هذا الحل سيؤخر الانتخابات التشريعية بضعة أسابيع، فقد اضاع الجلس العسكري شهورا من دون طائل، إلا الإضرار بالثورة العظيمة.