كيف يسمح ضميرُ أى اشتراكى أو ليبرالى أن يسكت عن مصادَرة إدارية لكتب عدد من السلفيين بقرارات من بعض شيوخ الأزهر فى وزارة الأوقاف بعيدا عن المحاكم ودون سماع دفاع المؤلفين؟ ألا يتذكِّر الاشتراكيون والليبراليون بهذا مواقف شبيهة عانوا هم أنفسهم منها عبر العقود الماضية، وكانوا يجأرون بالشكوى من أن هذا انتهاك لحقوق الإنسان وأنه يتعارض مع المواثيق الدولية التى صدَّقت مصر عليها وصارت واجبة النفاذ؟ وكيف لهم بعد هذا أن يطالبوا الجميع أن يتضامنوا معهم فيما يسمونه مسائل مبدئية تتعلق بحريات العقيدة والفكر والتعبير والإبداع الفنى والأدبى والتظاهر وغيرها؟ وإذا لم يكن يُلحّ عليهم الآن الموقفُ المبدئىُ، فكيف يغيب عنهم أن يحسبوها حساب المصلحة على مستوى المنفعة العملية ما دام أنهم دائماً فى حاجة إلى أن يصطف معهم رأىٌ عامٌ قوىٌ من تيارات شتى يدافع عنهم وعن حقوقهم عندما يُضطَهدون، وهم كثيراً ما يُضطَهدون، فى مسائل من أخصها الحريات؟ خاصة أن معرض الكتاب قريب، حيث موسم مصادرة عدد من الكتب! بعض السلفيين هم الواقعون تحت الاضطهاد هذه المرة بعد أن قرّرت وزارة الأوقاف مصادرة 5 آلاف كتاب وشريط سى دى لمشايخ السلفية من مكتبات الإسكندرية، وقال مسئول بالوزارة فى تصريحات صحفية إن المديريات تُجرى حملات تفتيش على المساجد ومكتباتها، بناءً على الإشارة الواردة من الوزارة بجرد المكتبات، ومصادرة مؤلفات مشايخ السلفية لمنع انتشار الأفكار المتطرفة التى تتعارض مع نهج الأزهر والأوقاف. ولكن، وللأسف، يبدو أن الغالب على تيارات وأحزاب الاشتراكيين والليبراليين أنهم سعداء بهذا، ببساطة، وبحسابات ضيقة، لأنهم يعادون الأفكار السلفية، مما جعلهم يتناسون مقولاتهم التى يصخبون بها أن الفكر يواجَه بالفكر. أى أنهم يمارسون بالضبط ما يعيبونه على السلفيين الذين لا يرون سوى أنفسهم ولا يعترفون إلا بأنفسهم. وبدلاً من أن يُثبت الاشتراكيون والليبراليون مبدأيتهم وهم ينادون بحريات الفكر والتعبير، إذا بهم يتبنون مضمون منهج السلفيين الذى ينفى حقوق غير السلفيين! ولك أن تتخيل أن يتكرر الموقف فى كل مرة مع تيار على حدة فتتخلى عنه التيارات الأخرى سعيدة بما طاله، بوهم أن هذا يزيدهم قوة، فى حين أنه يُضعِف الجميع ويضيف قوة للاستبداد فوق قوته المستمدة من سيطرته على أجهزة الدولة. لاحِظ فى عملية المصادرة الأخيرة، أن هناك عدداً من شيوخ الأزهر فى وزارة الأوقاف، ومع كل الاحترام لأشخاصهم ومع التسليم بإخلاص نواياهم، إلا أنهم جمعوا فى أياديهم كل السلطات، هم الذين فكروا وقاموا بالتحرى وجمعوا المعلومات وقرأوا هذه الكتب وأدانوها وأصدروا القرار بالمصادرة وأمروا رجالهم بتنفيذه! بما يعنى أنهم لم يلجأوا إلى أى جهاز فى الدولة، سواء الشرطة أو النيابة، كما أنهم أثبتوا أنهم ليسوا فى حاجة لحكم القضاء ولا لجهات تنفيذ الأحكام لتطبيق أفكارهم! كما أنهم لم يروا من الضرورى أن يُشرِكوا الرأى العام فى الموضوع! هذا خط انتاج كامل من الإجراءات يفترض فى القائمين بهذه المهمة أنهم من الملائكة القادرين على معرفة كل شئ، مع النزاهة الكاملة من أى غرض، والعصمة من أى زلل! هذه السُلطة شبه المطلقة يتحصل عليها ويمارسها من لا يعرفهم الشعب، وهم لا يصِلون إلى مناصبهم عبر انتخابات شعبية، ولكنهم برغم كل هذا يتمتعون بصلاحياتهم الهائلة التى تسمح لهم أن يتخذوا قرارات وأن ينفذوها مما يطال أثرُها عمومَ المواطنين! أى أنهم ينوبون عملياً عن الشعب دون اختياره، بأكثر مما يحظى به النواب الفائزون بالتمثيل عبر معارك انتخابية طاحنة! وهنا تُستحضَر مواقفُ تكررت فى السنوات الماضية لم يحرص كثيرٌ من شيوخ الأزهر فيها على أن يتركوا انطباعاً بأنهم من دعاة أو حماة حريات الفكر والإبداع، ليس فقط فى الفنون والآداب، بل مع بعض اجتهادات رجال الأزهر أنفسهم، بل مع كتب تراثية مرت عليها قرون مثل ألف ليلة وليلة، والفتوحات المكية، بل مع بعض الأبحاث التاريخية التى أضفوا عليها قداسة ومنعوا مجرد الخوض فى مناقشتها. وأما الدفاع عن صحة إجراءات المصادرة بحجة أنها تمت وفق قوانين ومراسيم تجيز التصرف، فهذا هو عين الموضوع، أى أنه يلزم تغيير هذه التشريعات لتتسق مع دستور 2014، الذى نصّ، بدءاً من الديباجة، على أن الهدف هو استكمال بناء دولة ديمقراطية حديثة حكومتها مدنية، إضافة إلى المواد العديدة التى تتحدث عن وجوب الفصل بين السلطات، وهو ما يتعارض معه بالمطلق مع أن يكون لجهة ما كل سلطات التحقيق والاتهام والقضاء والتنفيذ حتى دون سماع دفاع المقضى ضده! يبدو أن مفهوم الحرية لدى بعض رجال الأزهر، وفق ما هو سائد هذه الأيام، هو الدفاع عن الأغلبية وأفكارها ومصالحها ضد خصومها، وحقها فى التمدد فى فضاء لا يعرف آخرين، وهم بذلك يضربون عرض الحائط بالمفاهيم التى ترى الحرية فى توفير الضمانات للأقليات، خاصة من أصحاب الأفكار الجديدة، وحمايتها لأنها قد تحمل لبنات للتطور والارتقاء! ولك أن تتخيل، وأن تتخوف من المستقبل، عندما يتولى المسئولية هذا الجيل من طلاب الأزهر الذين هم وسيلة إيضاح حية للتطرف الفكرى والعنف المادى والتحلل من وضع الغير فى الاعتبار! ينبغى أن يكون القضاء هو الفيصل فى تحديد ما يضرّ المجتمع، وفق الدستور الذى اختاره الشعب والقوانين التى يُشرّعها البرلمان، والتى تحدد كيف يكون خطاب الكراهية وما هو التحريض على ممارسة العنف ورفع السلاح، على أن تكون المصادرة فى أضيق الحدود، لإتاحة الفرصة للمجتمع أن يقوم بمسئولياته فى التصدى بالحوار والمناقشة للتخلص من الأفكار الخاطئة، بعد أن يكون القضاء حسم أمر أخطار العدوان الذى يُهدّد أمن الوطن ووحدته، وأن تكون تفاصيل كل هذا على مرأى من الرأى العام الذى ينبغى أن يعرف هذه الأفكار وأن يكتشف من يتبناها، لكى ينضج وعى الناخبين بما يتجلى بعد ذلك فى اختياراتهم لمن يمثلهم فى المجالس النيابية والمحلية وفى حكم البلاد. لمزيد من مقالات أحمد عبد التواب