أين ذهب ذلك الحب كله؟ المحبان هنا هما أمريكا وإسرائيل. والمناسبة هي هذا الشجار العائلي النادر الذي شهده العالم كله. أما صاحب السؤال الاستنكاري فلم يكن وسيطا يحاول إصلاح ذات البين ولكنه مجلة' ايكونوميست' البريطانية الرصينة. لم تمض أيام قليلة علي السؤال حتي جاءت الإجابة عمليا وعلي الملأ أيضا من أعضاء الكونجرس والسياسيين الأمريكيين الذين أكدوا أن جذوة الحب بين البلدين مازالت مشتعلة, وان ما يجمعهما اقوي من أي أزمة. الاستقبال الحار الذي لقيه نيتانياهو خلال مؤتمر اللوبي الإسرائيلي' ايباك' وفي الكونجرس, والمشاعر الدافئة التي غمره بها الأعضاء من الجمهوريين والديمقراطيين بعثا بهذه الإجابة الحاسمة إلي كل من يهمه الأمر. غير أنه علي الجانب الآخر من الشارع حيث البيت الأبيض كانت ومازالت الصورة مختلفة تماما. الإشارات التي لا تخطئها عين والتي تحدثت عنها الصحف تؤكد أن الود مازال مفقودا بين نيتانياهو والإدارة الأمريكية. عندما ذهب للقاء أوباما لم تتم دعوة أي صحفي ولم يظهر الاثنان معا لالتقاط الصور. ولم يصدر بيان بعد المباحثات مباشرة وهي أمور نادرة بل لا تحدث أصلا مع أي رجل دولة صديق. قبل ذلك شهدت ايباك مواجهة غير مباشرة بين نيتانياهو وهيلاري كلينتون حيث كرر الاثنان نفس مواقفهما الخلافية. بعدها رفض نيتانياهو الذهاب إلي مقر الخارجية لمقابلتها كما كان مقررا, وذهبت هي إلي فندقه وتم اللقاء أيضا دون دعوة الصحفيين أو المصورين. نفس الأمر تكرر عندما لبي دعوة نائب الرئيس للعشاء الذي أقيم بصورة شبه سرية. الأزمة إذن لم تحل ولكن هدأت أو تأجلت. وحتي بعد أن تتلاشي ستبقي إحدي العلامات المهمة في مسيرة العلاقة بين البلدين لأنها طرحت للنقاش بصورة لم تحدث عند أي أزمة سابقة موضوعات بالغة الأهمية حول مستقبل وطبيعة العلاقات الثنائية, وتقاطع المصالح الإستراتيجية للدولة مع الحسابات الانتخابية للرئيس وأعضاء الكونجرس. كثير من المفكرين والصحفيين الكبار تصدوا بشجاعة وصراحة لتلك القضايا اقتناعا منهم بأن ما يحدث حاليا اكبر من أي خلاف عادي. كما انه قضية أمن قومي يجب أن تسمو فوق المصالح الانتخابية الضيقة دون أن يعني هذا التضحية بإسرائيل أو الإضرار بها. أحد هؤلاء كان الدكتور جون ميرشماير أستاذ العلاقات الدولية الشهير ومؤلف كتاب' اللوبي الإسرائيلي والسياسة الخارجية الأمريكية' مع زميله ستيف وات, وهو الكتاب الذي أثار ضجة هائلة قبل سنوات. أكد البروفيسور الأمريكي أن الأزمة الحالية أثبتت أن إسرائيل عبء استراتيجي وليست رصيدا استراتيجيا لأمريكا, علي ضوء ما تقوله إدارة اوباما ويدعمه العسكريون من أن سياستها تزيد العداء لواشنطن, وتعرض أرواح الجنود الأمريكيين للخطر. فند ميرشماير أيضا ما يقوله اللوبي الإسرائيلي من أن للبلدين نفس المصالح, وبالتالي يجب مساندة إسرائيل بصرف النظر عن سياستها. وقال إن هذا الادعاء زائف لأن من الصعب الدفاع عن علاقات تهدد حياة الأمريكيين. ويري أن الصدام الحالي أو المقبل سيعمل علي تذكير الأمريكيين بأن مصالح البلدين ليست متطابقة دائما. وأحد الدروس المستفادة من الأزمة كما يقول هو أنها أجبرت اللوبي الإسرائيلي علي أن يختار بين الانحياز لأمريكا أو إسرائيل. وطوال السنوات الماضية لم تكن هناك مشكلة في الانحياز للأخيرة إلا أن تلك الأيام ولت مع تزايد معرفة الرأي العام بطبيعة عمل اللوبي وانه مجرد جماعة مصالح. وعلي أنصار إسرائيل أن يقرروا إلي أي طرف سينحازون عندما يعلمون أن سياسات إسرائيل تضر بالمصالح الأمريكية. ويري الخبير الأمريكي أن المستقبل سيحمل معه المزيد من الأزمات لأن ما تفعله إسرائيل يجعل حل الدولتين مستحيلا وان البديل هو أن تصبح دولة عنصرية وهو ما لا يمكن أن تؤيده أمريكا لأسباب أخلاقية. نفس هذه النتيجة انتهي إليها سياسي ومفكر آخر عتيد هو بريجينسكي, الذي أكد انه يتفق مع ما قاله وزير الدفاع الإسرائيلي ايهود باراك من أن اخطر تهديد تواجهه إسرائيل هو عدم قيام دولة فلسطينية, لأنه يحولها إلي دولة فصل عنصري. وقال أيضا انه يتفق مع ما ذهبت إليه هاآرتس من ضرورة وضع العلاقة مع إسرائيل في سياقها الصحيح, وهو أنها ليست إضافة إستراتيجية لأمريكا ولكن أمريكا هي مصدر قوة إسرائيل. كثيرون أيضا لم تنقصهم الشجاعة والحكمة عند تحليل دروس الأزمة مثل ليسلي جليب المحلل المخضرم والرئيس الشرفي لمجلس العلاقات الخارجية الذي وصف الموقف الإسرائيلي بأنه غبي وخطير ويدمر العلاقات مع واشنطن كما يدمر النفوذ الأمريكي بالمنطقة. وقال انه احد المؤيدين لإسرائيل ولكنه يعلم أنها ليست المصلحة الوحيدة لأمريكا في الشرق الأوسط. أما الصحفي الشهير توماس فريدمان المؤيد القوي لإسرائيل فذهب إلي أبعد من هذا معتبرا الإدارة الأمريكية مخطئة بسبب تساهلها. فعندما أعلنت إسرائيل عن التوسعات الاستيطانية الجديدة عند وصول بايدن إليها كان يجب عليه أن يستقل طائرته عائدا ويترك رسالة يقول فيها للإسرائيليين إنكم كمن يقود سيارته مخمورا والصديق لا يترك صديقه يفعل ذلك. ولا يمكنكم إحراج حليفكم الوحيد في العالم بلا عواقب إرضاء لاحتياجات سياسية محلية.ورغم أن أوباما لم يحقق كليا ما أراده من إسرائيل, فإنه ليس معزولا كما يقول أنصارها بل يكسب أرضا جديدة بين هذا المعسكر نفسه. وهل يشك احد في إخلاص الحاخام ايريك يوفي رئيس جماعة الإصلاح اليهودي اكبر منظمات المعابد في أمريكا, هذا الرجل مثل نيتانياهو يعتبر أن القدس ليست مستوطنة وأنها العاصمة الموحدة لإسرائيل, إلا انه طالب بوقف البناء في الأحياء العربية فيها. ورغم أن هذا البناء كما يصفه شرعي, فإن الحكمة تقتضي أحيانا تجنب بعض الأعمال الشرعية. أوباما المنتشي حاليا بنصره الداخلي في معركة الرعاية الصحية سيكون أكثر ثقة وأقدر علي المواجهة من قبل, خاصة أنه يحظي بتأييد بعض الجماعات اليهودية ذات الصوت المسموع مثل' جيه ستريت'. ومع هذا سيبقي الحب الذي بحثت عنه الإيكونوميست متوهجا ونابضا في قلوب أعضاء الكونجرس. ولكن نبوءة ميرشماير تقول إن ما بين أمريكا وإسرائيل ليس زواجا كاثوليكيا لا ينفض.