أين ذهب البرادعي؟ اختيار الصحيفة الحكومية الكبري لنموذج المملكة العربية السعودية ليكون الأمل بالنسبة لنا في مصر.. يعود لسبب واحد هو الاقتداء بالنظم الملكية التي تعتمد علي التوريث.. ليس إلا. في يوم السبت السادس من مارس 2010 نشرت «الأهرام» في صدر صفحتها الأولي مقالا لرئيس مجلس إدارتها الدكتور عبدالمنعم سعيد بعنوان. أين ذهب الدكتور محمد البرادعي؟. ويتصور قاريء الصحيفة الحكومية الرصينة.. أن البرادعي قد هرب إلي الخارج.. بعد الضجة التي أثارها، وأن الحكومة تبحث عنه.. ليقف أمام قضاة المحكمة الشعبية ليحاكم ببعض الاتهامات ومن بينها المشاركة في غزو العراق.. وتجاهل البرنامج النووي الإسرائيلي.. ودخول الانتخابات الرئاسية بأصوات مزورة!. والكاتب في الصحيفة الرصينة عنده حق.. في السؤال أين ذهب محمد البرادعي.. وقوله «بقدر ما كان حضوره إلي مصر متأنيا للغاية.. فقد كان رحيله مفاجئا بشدة.. حيث بقي في الخارج ثلاثة شهور كاملة، بعد انتهاء مهمته كرئيس للوكالة الدولية للطاقة الذرية.. يبدو أنه قضاها في الدراسة والتحليل والاستعداد للمهمة الكبري في مصر.. بيد أن ساعة ذهابه بدت مدهشة (!!). ويستطرد الكاتب في الصحيفة الرصينة قوله «صحيح أن برنامج البرادعي كان معلوما منذ وقت طويل وحصوله علي جائزة من ألمانيا.. وإلقاء محاضرة في كوريا الجنوبية، وزياراته لنيويورك وعواصم دولية أخري كان منوها عنها قبل حضوره لمصر.. ولكن رجلنا «يقصد البرادعي» كان يستطيع فعل ذلك من القاهرة (!!) ويمكن السفر منها إلي أركان الدنيا الأربعة (!!) ومن ثم فإن الذهاب والإياب ممكن.. لاسيما وأن تطورا هائلا قد جري في البنية الأساسية للمطارات والموانيء المصرية(!) ويوجد في مصر الآن مطارات دولية في الإسكندرية والأقصر وشرم الشيخ ومرسي علم ومرسي مطروح والأقصر وأسوان.. ممكن منها الوصول إلي كل بقاع الأرض.. (!!). ومضي الكاتب في الصحيفة الرصينة يقول: ولمن لا يعلم فإن شركة مصر للطيران قد تقدمت كثيرا خلال الأعوام الماضية حتي باتت واحدة ضمن تحالف دولي واسع من شركات الطيران العالمية تقوده الشركة الألمانية «لوفتهانزا»(!!). ومعني الكلام.. أن الصحيفة الرصينة تري أن حرية التنقل تتوقف علي المطارات والبنية الأساسية.. وأن مصر للطيران تقدمت كثيرا وأن لدينا مطارات يمكن الوصول منها إلي كل بقاع الأرض.. بفضل الجهد الرائع الذي بذله الفريق الطيار أحمد شفيق. ونسيت الصحيفة الرصينة أن حرية التنقل لا تعني حرية التنقل بين مطارات بعينها.. وبين دول بعينها.. وإنما تعني التنقل بين المطارات التي يري صاحب الحق أنها الأنسب والأكثر توافقا مع ارتباطاته.. فما العيب في استخدام البرادعي حقه في التنقل بالشكل الذي يراه ومن المطارات التي يرتاح إليها؟. هل تستحق هذه الجزئية الشكلية أن تخصص الصحيفة الرصينة مقالا في الصفحة الأولي.. وتمتد إلي الثالثة.. تتساءل فيه أين ذهب الدكتور البرادعي؟.. بما يعطي الانطباع للقاريء العابر.. الذي لا يتابع المقالات.. وتتوقف مطالعته للصحف علي العناوين.. بأن محمد البرادعي.. قد هرب.. وأن أجهزة الدولة لا تعرف مكانه.. والدولة تتساءل: أين ذهب الدكتور البرادعي؟ ونسي الكاتب في الصحيفة الرصينة أن يضيف للإنجازات الكبري إلي جانب المطارات.. ما تحقق من إنجازات مثل استصلاح مليون فدان وبناء 3500 مدرسة و80 ألف شقة بأقساط في متناول الشباب.. أو التأمين الصحي والمستشفيات وأنابيب البوتاجاز والصرف الصحي.. ناهيكم عما تحقق في تحريك عملية السلام في الشرق الأوسط والمصالحة بين الفصائل.. إلخ. وكلها إنجازات كان يتعين علي الكاتب في الصحيفة الرصينة أن يذكر القراء بها وهو يتساءل: أين ذهب الدكتور البرادعي؟. وهو سؤال يذكرنا بالحملة الإعلانية التي قامت بها دار أخبار اليوم للترويج لصحيفة «الأخبار» اليومية الوليدة سنة 1952.. والتي كانت تتضمن سؤالا واحدا هو: أين حسن؟ وفي الصفحات الداخلية تنشر الإجابة وهي: ذهب يبحث عن صحيفة الأخبار! ولقيت الحملة الإعلانية نجاحا كبيرا.. انعكس علي وصول أرقام التوزيع لآفاق لم تكن تعرفها الصحافة المصرية من قبل.. بالإضافة إلي أن أصحاب الدار الصحفية الكبيرة استعانا بأقلام كبار الكتاب الذين احترموا القراء لحد بعيد واحترموا عقولهم.. ولم يتعاملوا مع قاريء الصحيفة معاملة.. المتخلف ذهنيا. كان كتاب الصحف.. يحترمون عقلية القراء.. ولا يدينون بالولاء إلا للقاريء.. صاحب المصلحة الوحيدة فيما ينشر.. ولم يكن يخطر ببال أي منهم أن يوجه سطوره لقاريء واحد.. هو رئيس المجلس الأعلي للصحافة الذي بيده التعيين.. وبيده تحويل الكاتب.. إلي باحث.. عن عمل. الولاء للقاريء واحترام عقليته.. كان المعيار الوحيد لاحترام القاريء لصحيفته.. وبالتالي ارتفاع التوزيع.. وقوة التأثير. كان أصحاب الصحف يتسابقون لاختيار أفضل الكتاب وأكثر الأقلام شعبية ومصداقية.. الأمر الذي أثري الصحافة بأسماء لامعة.. وصلت لمواقعها بالموهبة والطهارة.. وحسن السمعة والأخلاق الحميدة.. وليس بالقرارات السيادية.. التي حولت الكاتب الصحفي في مصر إلي ما يطلق عليه «كاتب القاريء الواحد». المهم.. أن الكاتب في الصحيفة الرصينة قام في مقاله المنشور يوم السبت السادس من مارس بشرح المقترحات التي طرحها البرادعي من أجل الإصلاح السياسي.. وقال بالحرف الواحد: إن ما جاء به البرادعي.. لم يكن بالنسبة للرأي العام المصري أكثرها أهمية.. ووفقا لدراسة الرأي العام التي أجراها مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام في خريف العام الماضي بمشاركة مركز المشروع الخاص الدولي في واشنطن.. وبتمويل من المعونة الأمريكية حول «مدركات المواطنين المصريين حول الشفافية والفساد» فإنه عند سؤال المواطنين عن أي المشاكل تري أن تكون لها أولوية المعالجة من قبل الحكومة.. وأي منها يحتل الأولوية الثانية، فقد جاءت البطالة في المقدمة واختارها 46% ممن تم استطلاعهم، وتلاها الفقر بنسبة 27% والفساد 13% وتطوير قطاع التعليم 7% وتطوير قطاع الصحة 5%.. أما تعزيز الإصلاح السياسي فقد حاز علي 1% فقط لا غير. هكذا قال الكاتب في الصحيفة الرصينة، في مقاله المنشور علي الملأ في السادس من مارس 2010.. ومعناه أن الدراسة التي أعدها المركز الاستراتيجي بصحيفة الأهرام.. وضع البطالة في مقدمة اهتمامات «العينة التي اختارها المركز» وبعدها الفقر بنسبة 27% والفساد 13% فقط.. ثم تطوير التعليم وحصل علي 7% وتطوير قطاع الصحة 5%.. علي أساس أن الصحة لا تهم الناس.. وهي آخر ما يفكر فيه المواطن.. لأن الصحة مسألة تافهة.. أما تعزيز الإصلاح السياسي فقد حاز علي 1% فقط لا غير. ومعني الكلام أن كل الضجة التي أثارتها عودة البرادعي لم تحصل من مكتب تنسيق مؤسسة الأهرام سوي علي 1% فقط من اهتمامات الناس.. وأن القضية الأولي هي البطالة وحصلت علي 46% ثم الفقر بنسبة 27% والفساد 13% فقط. ويستطيع القاريء.. المحدود الذكاء.. أن يفهم أن الكاتب في الصحيفة الرصينة يريد أن يقول له إن 1% فقط من المواطنين.. يهتمون بالقضايا التي طرحها الدكتور البرادعي والمتعلقة بالإصلاح السياسي والانتخابات الحرة وإلغاء قانون الطواريء وتبادل السلطة.. إلخ. وأن البرادعي يولي أهمية كبري لموضوع الديمقراطية بينما يقول استفتاء الأهرام.. علي حد ما جاء في مقال الصحيفة الرصينة أن نسبة كبيرة من «عموم» المصريين يضعون مصر في منتصف مؤشر الديمقراطية.. ويري 36% من أفراد العينة أن مصر تحتل مكانة أدني من منتصف درجات المؤشر بينما يري 41% منهم أنها تحتل مكانا أعلي من منتصف درجات المؤشر نفسه. وجاء في مقال الصحيفة الرصينة أنه عندما سئل أفراد العينة عن النموذج الذي تراه مناسبا لمصر.. كانت الإجابة هي المملكة العربية السعودية في المقام الأول تليها الصين بنسبة 20% ثم اليابان 14% ثم الولاياتالمتحدة بنسبة 11% والإمارات العربية بنسبة 11% أما فرنسا فقد حصلت علي 3% فقط أما بريطانيا فقد حصلت علي 1%، بما يعني أن الديمقراطية البريطانية في الحضيض والعياذ بالله.. وأن الديمقراطية في المملكة العربية السعودية.. هي القدوة بالنسبة لنا في جمهورية مصر العربية.. أما ماليزيا وبريطانيا وتركيا وإيران فلم تحصل أي منهم سوي علي 1%. ومفهوم طبعا.. أن اختيار الصحيفة الحكومية الرصينة.. لنموذج المملكة العربية السعودية ليكون الأمل بالنسبة لنا في مصر.. يعود إلي سبب واحد هو الدعوة للاقتداء بالنظم الملكية التي تعتمد علي التوريث وانتقال الحكم داخل أسرة بعينها.. تقود البلاد وفق رؤية عائلية تساندها طبقة سياسية تحتكر المال والسلطة. والسخيف في الموضوع أن ما جاء في الصحيفة الحكومية الرصينة.. لا يقتصر علي القاريء المصري الذي لا يصدق ما تأتي به صحف الحكومة.. ولكن المشكلة.. هي أن السفارات الأجنبية في القاهرة تقوم بترجمة مثل هذه المقالات.. التي تتحول في عواصم العالم لمواقف.. تسيء للنظام السياسي في مصر.. وتشوه صورته.. ولكاتب هذه السطور عشرات التجارب لمقالات.. جاءت بها أقلام الصبية في القاهرة.. وأساءت للرئيس مبارك بشكل صارخ.. في الوقت الذي كانت تقصد فيه مجرد النفاق للاستهلاك المحلي. والأمثلة لا تقع تحت حصر.. لاسيما بعد التدهور المروع في مستوي الأقلام التي اختارها الرئيس مبارك للتعبير عن سياساته.. وتقديم أفكاره للرأي العام.. طوال العشرين سنة الأخيرة. ما علينا.. نعود لمقال الصحيفة الرصينة فنقول إنه من المثير للدهشة أن كاتب المقال لم يجد أي علاقة بين اختيار 46% ممن تم استطلاعهم للبطالة و27% منهم للفقر و13% منهم للفساد.. إلخ.. وبين النظام السياسي الذي استمر لأكثر من 30 سنة.. وأسفر عن هذه النتائج. لم يربط بين كل ما واجهته البلاد من كوارث ومن ضياع فرصة إعادة التعمير والإصلاح.. وبين فشل النظام السياسي الذي انفرد بالسلطة المطلقة لمدة تزيد علي ربع القرن.. أوصلت البلاد إلي ما نحن عليه الآن وجعلت المواطن الذي أدلي برأيه في الاستفتاء «الاستراتيجي» يري أن النموذج لنظام الحكم في مصر.. هو النظام السائد في المملكة العربية السعودية!!. وهي نتيجة يمكن أن تنشر في باب صدق أو لا تصدق.. والمحصلة النهائية للمقال الذي نشرته الصحيفة الرصينة.. يؤكد أن كل ما جاء به البرادعي لا يهم سوي 1% من المواطنين. ويبقي السؤال: إذا كان الأمر كذلك.. فما سر كل هذه الضجة التي تثيرها صحف الحكومة في الهجوم علي البرادعي.. وما سر الحملات التي تدبرها الحكومة لمحاكمته بتهمة الحرب علي العراق وتجاهل المفاعل النووي الإسرائيلي. ثم ما سر المقال الذي يتساءل.. أين ذهب الدكتور محمد البرادعي؟ علي أية حال.. فإذا كان البرادعي بالقوة التي مكنته من الحرب ضد العراق.. وتجاهل إغلاق المفاعل النووي الإسرائيلي.. فإنني أول من يرحب به رئيسا.. كي يتمكن من تحريك عملية السلام التي توقفت منذ أكثر من 30 سنة!. وأتمني عند نشر هذه السطور أن تكون الصحيفة الرصينة قد عرفت من مراسيلها في الخارج.. أين ذهب الدكتور البرادعي؟.. وتعرف طريقه قبل أن ننشر صورة في باب «خرج ولم يعد».