«يا مصر لك المجد والعزة، فسوف نعيد فتح قناة عمربن الخطاب العتيقة، كان لأجدادنا فيما مضى شرف تنفيذ هذا العمل الخارق. إن شق الخليج لواجب مقدس. افتحوا فيه طريقا، إن شق بطن الخليج لمؤلم، ولكن بعد ذلك سوف تزول آلامنا إلى الأبد. نعم ها هو خليج السويس العتيق: فضاء من الحصباء، وصحراء مكفهرة ومقفرة، سوف يخضعه البحر لسلطانه، ويطيل سواحلنا. إن عشق البحر للبحر الآخر، هو كعشق اللآلئ لصدور الحسناوات، هنالك ستذهب سفننا نتنزه نزهة الخطّاب، ويهوى إلينا من نحبهم من البشر.» وسط الأوراق المصرية... وجدت ما كتبه الشيخ رفاعة الطهطاوى عن مشروع قناة السويس الذى رأى فيه الخير الكثير للبلاد والعباد، الا أن ما فهمه الطهطاوى اعتمادا على بعد نظره ورجاحة عقله لم يشفع للوالى سعيد باشا. مسكين سعيد باشا...ففى كتب التاريخ ليس له ذكرى سوى أنه باع مصر بطبق مكرونة. هكذا قالوا عن الرجل الذى طارده ديلسيبس بحلم قناة السويس الذى رفضه محمد على، وخليفته عباس الأول الذى كان يغلق الأبواب أمام كل جديد. أما سعيد باشا فقد كان شخصية أخرى، فلم يكن واسع الأفق مثل والده محمد على، ولم يكن أيضا متحجر العقل والفؤاد كعباس الذى دفع حياته ثمنا لتصرفاته حين قتله مماليكه أثناء نومه بقصره انتقاما منه. فقد أراد وكما تقول المؤرخة د. لطيفة سالم أن يشيع حالة من الانتماء لمصر بأن يصلح من حال الفلاحين فأصدر اللائحة السعيدية عام 1858 كأساس للتشريع الخاص بملكية الأطيان فى مصر، كما خفف الضرائب وسعى لإلغاء نظام احتكار الحاصلات الزراعية، ومنح الجيش صبغة مصرية حين جعل الخدمة العسكرية إجبارية على الجميع، وقام بترقية الضباط المصريين من تحت السلاح ليصلوا إلى المراتب الكبرى كما حدث مع الزعيم أحمد عرابى. أما السودان فذهب إليه بقصد الاصلاح ، وهى زيارة أعقبها قرار الاستغناء عن الكثير من الوجوه التى أخذت أكثر مما أعطت لأهل السودان والحكومة المصرية. كل هذا الرصيد كان يمكنه أن يجعل سعيد سعيدا بما منحه للقطر المصرى، الا أن التاريخ مع هذا لم ينصفه عندما وصل الأمر إلى حد الجد ووافق على منح ديلسيبس امتياز حفر قناة السويس فى 30 نوفمبر عام 1854. صحيح أنه أراد أن يكون منصفا فى البداية، ولكنه لم يفطن إلى ما أراده ديلسيبس من تحقيق لحلم نابليون الاستعمارى الذى قاد الحملة الفرنسية على مصر وفى ذهنه قناة السويس. ففرنسا أكثر من يعرف كما قال الرافعى نقلا عن بابونو المؤرخ الفرنسى فى كتابه «تاريخ مصر المالى» أن منح امتياز القناة إلى ديلسيبس يفتح أبواب الدلتا على مصراعيها للأوربيين. كما أن مصر لم تستفد كما يضيف كاتب فرنسى أخر وهو كوشرى فى كتابه «المركز الدولى لمصر والسودان» بل على العكس خسرت بتحويل طريق التجارة بين أوروبا والشرق من داخل مصر إلى القناة التى أصبحت ملكا لشركة أوروبية، ففقدت مصر أرباح مرور التجارة فى وسط الدلتا، بطريق النيل أو السكك الحديدية المصرية. ربما تورط سعيد باشا بسبب أسلوب ديلسيبس الدبلوماسى الناعم، أوبسبب مستشاريه الذين لم يروا فى ديلسيبس الا فارسا مغوارا يجيد ركوب الخيل، فلم ينتبهوا إلى ما يحدث فى بر المحروسة. وربما لم يتورط سعيد بل كان يبحث عن حلم جديد لمصر الا أن حلم نابليون أصبح مع الأيام قرارا للجنة دولية أعلنت تقارب مستوى البحرين المتوسط والاحمر وأنه يمكن الأن شق القنال. وتدور عجلة الأحداث لتؤكد التقرير لجنة دولية أخرى، ويصدر عقد الامتياز الثانى فى يناير عام 1856 كما يقول المؤرخ عبد الرحمن الرافعى فى كتابه «عصر إسماعيل» وقد تنازلت الحكومة للشركة مجانا عن جميع الأراضى المطلوبة وهى مساحات شاسعة بعرض كيلو مترين من الجانبين، كما تمنح الشركة حق انتزاع الأراضى المملوكة للأفراد فى مقابل تعويضات تدفعها. أما الأسوأ فكان تعهد الحكومة بأن يكون أربعة أخماس العمالة من المصريين، وهو ما فتح الباب أمام السخرة. ومع هذا كان يمكن أن ينتهى كل شىء قبل أن يصدر الفرمان العثمانى بالتصديق، وخاصة مع محاولات إنجلترا المستميتة. فدخول فرنسا بهذا المنطق الأراضى المصرية كان بمثابة إعلان حرب على الامبراطورية البريطانية، ولهذا وصل الأمر إلى حدودالمؤامرة للإطاحة بسعيد الذى عرف بكل ما يحدث، فتردد بل تراجع و عهد إلى شريف باشا بإرسال خطاب لديلسيبس لوقف العمل. الا أن فرنسا لم يستسلم طموحها ، كما أن السياسة وتقلباتها قد تهدى فرصة يعجز التخطيط عن الوصول إليها. و يستمر المشروع الذى من أجله يضطر سعيد باشا للاستدانة فيحصل على قرض ثابت يبلغ 3242800 جنيه إنجليزى من بنك بلندن بفائدة تصل إلى 7%، إضافة إلى دفع 25 ألف عامل ليعملوا فى القناة بنظام السخرة ليعيش من يعيش ويموت من يموت، وحتى سعيد نفسه يرحل مبكرا وهو فى الثانية والأربعين من العمر ليترك لمصر ميراثا ثقيلا من الديون، ويذهب كل ما قدم مع الريح. لا أعرف ما إذا كانت حكايتنا تتوقف عند موت سعيد باشا الذى لم ينصفه التاريخ ، أم أنها تبدأ مع قناة السويس التى أصبحت العنوان العريض لعصر الخديو إسماعيل. صدق الشيخ الطهطاوى فالأحداث وكما جرت فيما بعد تثبت أن الخطأ لم يكن فى حفر القنال ولكن فى اننا دعينا لحفرها ممن لا نحبهم أو نأمنهم من البشر. فسواعد المصريين التى أنشأت الأهرامات و حفرت الصخر وارتفعت بقامة الكنائس والمساجد قادرة أن تفعل وتفعل، وأما ما حدث فى عصر إسماعيل فهذه قصة أخرى.