كل صباح وأنا ذاهب إلي شقائي وشقوتي وعملي الدؤوب.. في رحلة البحث عن الحقيقة في بلاط صاحبة الجلالة وسيدها وتاج رأسها المتوج اسمه «الأهرام« «الورقي» وعمره الآن ما شاء الله.. اطلقوا البخور.. اللهم يزيد ويبارك 138 سنة. أمر علي الأهرام «الحجري» وعمره من عمر الزمن نفسه خمسة وأربعون قرنا ويزيد.. لأقول لحارس مصر العظيم الذي اسمه أبوالهول: صباح الخير يا جدنا.. ويا حارس تاريخنا ويا كاتم أسرارنا.. ولا أنسي أبدا عندما أعود في المساء إلي داري وقراري فأنا من حواريه .. ان أقول له: تصبح علي خير يا من تحفظ السر وتكتم الأمر.. وآه لو اذن لك الزمان يوما أن تتكلم وتقول وتبوح بأسرار القرون وخدر الفراعين.. وما خفي كان أعظم وابقي. وإذا كان الحارس علي حضارة مصر ونور مصر وإبداع مصر.. لا يتكلم ولا ينطق بنت شفة عبر عمره الطويل ما يزيد علي خمسة وأربعين قرنا من الزمان.. فمن يتكلم إذن ويحكي عن الإبداع المصري والحضارة والنور والعمارة والفلسفة والقانون والأدب والدين والفن العظيم الذي أبهر العالم ومازال يبهره ويرويه.. ويسعده.. ويشقيه ويعلمه ما لم يكن يعلم؟ بل أنه مازال يبهر العالم كله.. في كل يوم كشف وفي كل ساعة خبر! وإذا كان أبوالهول صامتا هامدا لا يتكلم ولا يبوح بكنوز الأسرار وخبايا القصور واستار الحريم وأسرارهن.. ويا لها من أسرار ويا لها من استار.. وسيظل صامتا طال الزمان أو قصر.. فان الذي تكلم وقال وباح بالأسرار هو كتابات الأجداد العظام ونقوشهم علي متون الأهرامات.. وعلي جدران المعابد والمقابر والمسلات.. وفوق أوراق البردي.. وقد فك طلاسمها في آخر سنين الحكي عمنا شامبليون العالم الفرنسي.. الذي رافق الحملة الفرنسية علي مصر.. يتسألون متي؟ قبل نحو مائتي عام.. ياه مائتي عام.. وقبلها كان لغز الحضارة المصرية طلسما مجهولا؟ الجواب: بالنسبة لنا وبالنسبة للدنيا كلها.. نعم بالتأكيد.. بعدها ظهر لدينا ربان فجر الحضارة المصرية الذي اسمه جيمس هنري بريستد عالم المصريات وصاحب الحوليات والمجلدات في تاريخ الحضارة المصرية العظيمة.. وفي مقدمتها: فجر الضمير الذي اهداه للإنسانية كلها.. ........... ........... ولكن يبقي شاهد واحد لم يذكره أحد.. ولم يعرف به أحد.. لأنه خفي متدثر باستار الأديرة والكنائس العتيقة.. يكتبه الرهبان ولا يقرأه إلا الرهبان أيضا.. وهو حبيس الخزائن والأقبية والقلايات.. ما اسمه يا صاحب الحكي؟ الجواب: اسمه «السنكسار».. وهو سجل «الدير» الخفي الذي لا يطلع عليه أحد.. إلا كاتبوه من الرهبان الذين يسجلون علي صفحاته يوميات الكنيسة المصرية عبر نحو ألفي عام.. يوما بيوم وساعة بساعة.. وهو في رأيي ورأي كل الخبراء وعلماء التاريخ والأديان أجمعين.. سجل باليوم والساعة.. للحياة المصرية كلها.. عبر ألفي عام ويزيد! .......... .......... قد تسألون: لماذا كل هذا الكلام الآن؟ وقد تتساءلون: لماذا تذكرنا الآن ياصاحب الحكايات وتفتح أمامنا سجل الحياة الكنائسية عبر ألفي عام ويزيد الذي اسمه «السنكسار»؟ وجوابي: الحق أقوله لكم.. أنه صديقي ورفيق دربي وأيامي واكتشافاتي في عالم الآثار والدين والدنيا.. الذي اسمه سمير متري جيد .. خبير المحطات النووية ورفيق سفرى ورحلتي إلي دير الانبامقار في وادي النطرون.. في الكشف عن نبي كريم اسمه سيدنا يحيي بن زكريا.. المعروف عند اخواتنا في الوطن أقباط مصر ومعهم أقباط العالم كله: باسم: يوحنا المعمدان.. قال لي سمير متري جيد: يوم الأحد الماضي التاسع من شهر نوفمبر احتفلت الكنيسة المصرية الأرثوذوكسية بعيد تذكار القديس مار مرقس.. وقد اقيم الاحتفال في الكنيسة المعلقة في شارع المسلة في الإسكندرية.. وقد حضرته أنا .. وكنت أود أن تحضره انت لكي تعرف سرا من أسرار العلاقة الحميمة التي تر بط قبط مصر بمسلميها الكرام.. وتتعرف علي سر من أسرار صديقك الذي طالما تباهيت بحكمته ودهائه! قلت: ذكرني به ارجوك؟ قال: انه الداهية عمرو بن العاص فاتح مصر العظيم.. دعني أحكي لك حكايته مع القديس مار مرقس .. وهي حكاية أغرب من الخيال نفسه! ............ ............ كان القائد عمرو بن العاص داهية العرب يستعد للسفر في حملة إلي الشام.. وكان الأسطول العربي رابضا في الميناء في الإسكندرية استعدادا للرحيل. وفي ليلة من ليالي عام 644 ميلادية يعني منذ 1370 عاما بالتمام والكمال تسلل أحد البحارة متدثرا بالظلام الحالك إلي كنيسة بوكالسيا أو «داء البقر» في الإسكندرية عاصمة مصر أيامها.. وراح يبحث عن أي شيء ثمين يسرقه.. حتي اصطدمت يداه في الظلام.. بتابوت خشبي.. فتحه عنوة بخنجر كان في خاصرته.. ليجد رأس القديس مار مرقس وجسده ملفوفين داخل التابوت.. ويبدو أن الرأس كان مفصولا عن الجسد في عصر الشهداء في مصر في عام 44 ميلادية.. يعني منذ 1370 سنة.. فأخذ اللفافة التي بها الرأس وخرج مسرعا.. وهو يحسبها غنيمة ذهبا كانت أو فضة.. ثم عاد إلي سفينته وأخفاها أسفل المركب! عمنا سمير متري جيد مازال يحكي: ولما عزم القائد عمرو بن العاص علي الرحيل في الصباح الباكر إلي الشام.. فردت كل السفن في الميناء قلاعها.. وابحرت إلا السفينة التي في قاعها رأس القديس مار مرقس الانجيلي.. فلم تتحرك علي الاطلاق.. رغم محاولات البحارة المستميتة لتحريكها! هنا ادرك البحارة أن هناك سرا غامضا لا يعرفونه.. يمنع تحرك السفينة من الميناء. وأبلغوا القائد عمرو بن العاص بالأمر.. الذي أمر بتفتيش السفينة.. وأخرج البحارة كل ما في أحشاء السفينة حتي عثروا في قاعها علي الرأس المغطاة باللفائف.. ففتحوها فوجدوا رأس القديس المسروقة! ويسأل القائد عمرو بن العاص: من احضر هذه الرأس إلي هنا؟ يخرج من بين صفوف البحارة السارق الجاني ليعلن عن نفسه ويقول: أنا يا سيدي الذي فعلها! ليأمر القائد العربي بعقاب الجاني.. وان لم يذكر السنكسار هنا نوع العقوبة. هل هي الجلد أم الطرد من الجيش؟ .......... .......... ويا سبحان الله.. فانه بمجرد خروج الرأس المباركة من السفينة.. تحررت وتحركت! وأخذ عمرو بن العاص رأس القديس مار مرقس واحتفظ به في غرفته الخاصة تحت حراسة مشددة من حراسه الواقفين ببابها ليل نهار.. ثم سأل معاونيه واتباعه: أين بابا الأقباط؟ قالوا: انه الانبا بنيامين البطريرك الثاني والثلاثون .. وكان هاربا ومختبئا داخل اديرة الصعيد.. خوفا علي حياته من بطش المسلمين! فما كان من القائد عمرو بن العاص.. إلا أن كتب إليه خطابا بخط يده يطمئنه فيه ويعطيه الأمان.. ويطلب منه الحضور إليه لأمر عاجل! اسأل: وحضر البابا الهارب من مخبئه في الصعيد؟ قال سمير متري: نعم كما يقول السنكسار.. وقابله عمرو بن العاص مقابلة رائعة وسلمه الرأس المقدسة.. الذي صنع المعجزة العظيمة التي أوقفت تحرك المركب الذي كان الرأس المسروق مخبأ في قاعه.. ثم منحه عشرة آلاف دينار. وقال له: ابني بها كنيسة لهذا القديس العظيم تحمل اسمه هنا في الإسكندرية! وبالفعل احتفظ البطريرك بنيامين.. بالرأس في قلايته حتي بني كنيسة عرفت باسم الكنيسة المعلقة في شارع المسلة وهي غير الكنيسة المعلقة المقامة فوق حصن بابليون في مصر القديمة في القاهرة والتي افتتحها بعد الترميم المهندس إبراهيم محلب رئيس مجلس الوزراء أخيرا.. قلت: هذا هو الإسلام دين المحبة والرحمة والتراحم والبر والتقوي.. وهو الذي حمي المسيحية في مصر.. وهذا ليس كلامي وحدي.. بل يشاركني في الرأي المؤرخ جيمس هنري بريستد.. نفسه الذي يقول: عندما أصدر عمر بن الخطاب أمير المؤمنين أوامره لقائده عمرو بن العاص.. بعد أن فتح مصر: لا تهدموا صومعة زاهد أو قلاية عابد.. ولا ترغموا قبطيا علي الدخول قسرا في الإسلام إذا أراد فمرحبا به.. وإذا اراد ان يحتفظ بدينه فعليه أن يدفع الجزية.. وإذا لم يستطع .. دفعها عنه بيت المال.. لا إكراه في الدين.. .......... .......... قلت لصديقي سمير متري جيد: كلما اتذكر أن الخليفة عمر بن الخطاب لم يزر مصر أبدا.. زار بيت المقدس ورفض الصلاة فيه حتي لا يحوله المسلمون من بعده إلي مسجد للمسلمين كما فعلوا في كنيسة اياصوفيا في اسطنبول! أنا من أسعد المعجبين ولست وحدي هنا.. بل من خلفي طابور طويل من أولي الفكر والفطنة والعلم والدين بالخليفة عمر بن الخطاب.. أعدل الخلفاء الراشدين قاطبة. قال: وأنا من أشد المعجبين بدهاء وفطنة وحسن تصرف القائد عمرو بن العاص.. الذي كان درعا وسيفا للاسلام والمسيحية معا في مصر. .......... .......... قلت للمهندس سمير متري جيد: الا تعرف يا صديقي أن فتح المسلمين لمصر.. ما كان ليتم لولا دهاء ومكر عمرو بن العاص؟ يسألني بلهفة: ازاي يا طويل العمر؟ قلت: كان عمرو بن العاص في طريقه لفتح مصر.. عندما جاءه خطاب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب يقول له فيه: إذا أنت لم تكن قد دخلت بجيش المسلمين إلي داخل حدود مصر.. فأرجع من حيث اتيت؟ وكان عمرو بن العاص.. لم يدخل بعد بجيوشه إلي النقطة التي وصفها له أمير المؤمنين.. ولم يكن يعلم ساعتها بما يحتويه خطاب أمير المؤمنين.. ولكنه توجس خيفة أن يكون الخليفة قد رأي أمرا في فتح مصر.. وتراجع عن فتحها.. فطلب من حامل الخطاب أن يرجئه للصباح.. وما بين الليل والشروق كانت جيوش المسلمين قد دخلت حوافر جيادها التراب المصري.. فطلب عمرو بن العاص خطاب خليفة رسول الله من حامل الخطاب وقرأه.. وقال لقواده: نحن لن نخالف أوامر أمير المؤمنين.. وها نحن قد دخلنا تراب مصر.. فعلي بركة الله.. ودخل إلي مصر.. ليدخل الإسلام معه في ركابه .......... .......... هل بين الرجال الآن .. رجل في مثل دهاء وفطنة عمرو بن العاص؟ من عنده الجواب.. فليتفضل..{! Email:[email protected] لمزيد من مقالات عزت السعدنى