أكتب إليك رسالتى وأنا غارقة فى بحر من الدموع، ليس من منطلق شكوى من آلام لحقت بى، وإنما على سبيل المشاركة الوجدانية مع هذا الباب الجميل الذى أشارك قراءه أفراحهم وأحزانهم، وبكت عيناى كثيرا من أجلهم، فأنا سيدة أكملت سن الأربعين، وقد تربيت فى أسرة متوسطة الحال لأبوين موظفين حرصا على تربيتى وأخوتى على الخلق الحميد، والإلتزام الدينى، وكانت أمى صبورة وحكيمة، فتحملت قسوة الحياة مع أبى، وتعلمت منها تحمل المسئولية، فلقد كان أبى برغم طيبة قلبه عصبى المزاج فى أحيان كثيرة، وقد وصفتنى أمى ب«رمانة الميزان» لما رأته من تصرفاتى السديدة فى بعض المواقف على حد تعبيرها مع أننى الثالثة فى ترتيب أخوتى وهم بنتان وولد هو أكبرنا جميعا، لكنه بكل أسف مدلل، ولا يتحمل أى مسئولية، وقد سافر إلى الخارج بعد تخرجه فى كليته، وتقطعت بيننا وبينه كل السبل، وتزوجت اختاى ثم أصيب أبى بعدة جلطات، ووجدتنى أتحمل مسئولية أبى وأمى لمدة عشر سنوات، تفانيت خلالها فى تقديم كل صنوف الرعاية لهما بعد أن أصيبت أمى هى الأخرى بمرض مزمن فى الفقرات القطنية. وعزفت عن الزواج تماما، وغيرت مسار دراستى إلى كلية عملية تساعدنى على تمريض أبى، وتغنينى عن الاستعانة بمتخصصين فى هذا المجال، وتقبلت حياتى بهذه الصورة، ووصلت إلى سن الثلاثين بلا زواج، وقال لى أبى إنه يشعر بتأنيب ضميره لأننى أرفض الزواج من أجله، وذات يوم زارتنا واحدة من معارفنا، وكانت تعرف دورى فى مساعدة والدىّ، فطلبت يدى لإبنها، وهو مهندس، ويعد دراسات عليا فى تخصصه بإحدى الدول الأوروبية، ووافق أبى سريعا معتقدا أنه يعمل على مصلحتى، ومع ضغطه الشيد علىّ، وافقت على هذه الزيجة برغم أن فارق العمر بيننا عشرون عاما، وتم عقد القران، ثم توفى أبى بعده بيومين فقط، ثم أجبرنى زوجى على الزفاف قبل أن ألملم جراحى، ودون أن يجهز شقة الزوجية، وأقمنا فى بيت أسرته، وفوجئت به متقلب المزاج ويثور لأتفه الاسباب، ولا يفكر إلا فى نفسه، أما الذى هوّن علىّ هذه الزيجة، فهو سفره إلى الخارج، وقد حاولت ألا أنجب منه، لكنها إرادة الله أن رزقنى بثلاثة أبناء أكبرهم عمره الآن إثنى عشر عاما.
وقد أنهى زوجى عمله بالخارج بعد ستة أعوام من زواجنا، وعاد إلى مصر ليقيم معنا إقامة دائمة، فاكتشفت أنه أدمن المواد المخدرة بكل أنواعها، وسعيت جاهدة لعلاجه دون جدوى، ووصلت به الحال إلى ايذائى أنا واولادى بدنيا ونفسيا، وصبرت عليه طويلا، ثم انفصلت عنه وذهبت أنا وأولادى إلى منزل والدتى، وبعد عام من اقامتى معها تعرضت شقتنا لماس كهربائى أتى على محتوياتها بالكامل، وأحمد الله أننا جميعا بالخارج، وسجدنا شكرا لله سبحانه وتعالى أن نجانا من هذه الكارثة، ولم نجد مكانا نلجأ إليه سوى الأقارب، فرحنا ننتقل بينهم إلى أن يتم عمل صيانة للشقة بعد الحريق، وأستقرت بنا الحال فى شقة بالإيجار الجديد، وخرجت إلى العمل لكى أوفر متطلبات أولادى. لقد خارت قواى وسئمت من قيامى بدور الأب والأم فى آن واحد، ومازال المشوار أمامى طويلا.. وانى اسألك: هل محطات الحياة كلها شقاء؟.. وأليس بينها محطة لالتقاط الأنفاس؟.. أننى أشعر بضعفى، وقلة حيلتى، وأنا أواجه أمواج الحياة بمفردى، ولا المح أملا فى الوصول إلى شاطئ الأمان؟. ولكاتبة هذه الرسالة أقول
كل منا يستطيع أن يلتقط أنفاسه، وسيتريح فى معية الله سبحانه وتعالى، فمن يستعجل نصيبه من الرزق حتى لو تأخر إلى سنوات طويلة، ويبادر الزمن، ويقلق من تأخر رغباته، كمن يسابق الإمام فى الصلاة، وهو يعلم أنه لن يسلم إلا بعده، فالأرزاق مقدرة، ولا راد لها ويقول تعالى.. «أتى أمر الله فلا تستعجلوه» «وإن يردك بخير فلا راد لفضله» وأنت يا سيدتى قادرة على إدراك ذلك بما إتصفت به عبر مشوارك فى الحياة من الحكمة والصبر، حتى أن والدتك أطلقت عليك اسم «رمانة الميزان»... فهل تيأس من تتمتع بهذه الصفة الجميلة؟.
إن الحياة فيها مزيد من الشقاء والسعادة، والفرح والحزن، وعلينا أن نعيشها كما هى، ولعل تجربتك مع زوجك السابق تكون فى ميزان حسناتك، واعلمى أن الله سبحانه وتعالى لا يقضى قضاء للعبد إلا كان خيرا له، ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فى حديثه الشريف.. «أحرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز ولا تقل: لو أنى فعلت كذا لكان كذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل».
إننى أنصحك بنصيحة الفيلسوف الروائى «ابيكتويوس» بوجوب الاهتمام بازالة الأفكار الخاطئة من تفكيرنا أكثر من الاهتمام بازالة الورم والمرض من أجسامنا، والتحذير من المرض الفكرى والعقائدى فى القرآن الكريم أعظم من المرض الجسمانى، إذ يقول عز وجل «فى قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا».. ويقول أيضا: «فلما زاغوا ازاغ الله قلوبهم».. وقد تبنى الفيلسوف الفرنسى مونتين شعارا فى حياته هو «أن الإنسان لا يتأثر بما يحدث مثلما يتأثر برأيه حول ما يحدث»، فإنبذى الأفكار العالقة بتفكيرك، وتقربى إلى الله، وسوف يبدل شقاءك سعادة وراحة وطمأنينة، وهو وحده المستعان.