تُعد دراسة الحكم والأمثال من الوسائل المهمة لدراسة الضمير الجمعى عند الشعوب، ولم يكن المصريون القدماء بعيدين عن هذه الآداب الشعبية الثرية، بل كانت جزءاً أساسيا من ثقافة الشعب المصرى القديم، خاصة فى ظل سيطرة الكهنة وسيطرة الفكر الدينى على الكثير من الأمور فى البلاد، فقد حرص المصرى القديم على التأكيد على الالتزام بالقيم والمُثُل والأخلاقيات، وعبر عن ذلك حكماء مصر عبر العصور المختلفة، فجاءت حكمهم ونصائحهم التى تباروا من خلالها فى التمسك بالقيم فى كل جوانب حياتهم. من تعاليم إيبوور
وكما أبدعت عقلية المصرى القديم قصصا أدبية رائعة مثل قصص "سنوحى" و"الفلاح الفصيح" و"البحار الغريق" وغيرها، فقد أبدعت أيضا الكثير من الحكم والأمثال التى وصلت إلينا لتعبر عما وصل إليه المصرى القديم من نضج فكرى، وكانت هذه الحكم والأمثال تُكتب فى إطار تعليمى، فتبدأ -عادة- بكلمة "سبوبى" كعنوان لها، وهى كلمة تعنى "درس أو تعليم" ويُقصد بها تعليم حكم الحياة وآداب السلوك، وهى غالبا تكون نصائح موجهة من والد اكتسب خبرة الحياة يصوغ تجارب حياته التى اكتسبها فى عبارات بليغة موجزة موجهاً إياها إلى ابنه حتى يحقق لنفسه النجاح والفلاح فى حياته. ومن أبرز الحكم التى كتبها المصريون القدماء: تعاليم "بتاح حتب" عنيت أساسا بالأخلاق وقواعد السلوك، وكانت تدرس على أنها دروس فى الأدب والأخلاق، وهى صورة يُحكم منها على تقدير الشعب المصرى للقيم والسلوكيات الإنسانية القديمة، وهناك أيضا نصائح "أمنمحات الأول" إلى ابنه "سنوسرت الأول"، وكانت من القطع الأدبية المحببة إلى قلوب المصريين، ومما جاء فيها مما يقوله "أمنمحات" لابنه: من بردية تعاليم الملك امنمحات
"استمع لما أقول لك حتى تكون ملكاً على الأرض، احذر الاتباع ولا تكن وحدك، لا تثق فى صديق، إذا نمت فاحرس قلبك بنفسك، وعند الشدائد لن تجد الصديق. لقد أعطيت الفقير، فكان الذى طعم خبزى هو الذى خاننى". نصائح "مارى كارع": وجهها ملك أهناسى إلى ابنه "مارى كارع" وهى تعبر عن حكمة وفطنة سياسية كبيرة، ومنها قوله: "إن فضيلة الرجل المستقيم أحب (عند الله) من ثور (أى قربان) الرجل الظالم"، وعندما يتذكر الموت ويوم الحساب يقول إنه: "لم يرتكب أية خطيئة ضد الناس، ولم يفعل ما يمقته الإله، ولم يترك أحدا يتضور جوعا، ولم يتسبب فى بكاء أى إنسان، ولم يأمر بالقتل، ولم يتسبب فى بكاء أى إنسان، ولم يغتصب الطعام، ولم يتسبب فى شقاء أى إنسان، ولم يسرق، ولم ينطق بالكذب، ولم يغش، ولم يتكبر، ولم يرتكب الزنا". حكم "أمنموبى": يبدأها بقول: "أمل أذنيك لتسمع أقوالى، واعكف قلبك على فهمها، لأنه شىء مفيد إذا وضعتها فى قلبك. وهناك الكثير من الحكم التى نُقلت إلينا عبر البرديات، والتى تؤكد براعة المصريين القدماء فى هذا المجال، منها تعاليم وحكم كاجمنى وأقوال الحكيم أيبوور ونصائح آنى وتعاليم أمنموبى لابنه حور ماخر وغيرها. أما الأمثال فقد جاء الأدب المصرى القديم زاخرا بالكثير من الأمثال الشعبية، معبرا عن قيم راسخة ومبادئ ثابتة، وعن خبرة متميزة لأصحاب الحكمة والمعرفة، ومن الملاحظ فى هذه المرحلة التاريخية البعيدة أننا لن نلتقى بالأمثال الشعبية بالمعنى المحدد للكلمة، لأننا نعلم أن مثل هذه الأمثال كان يجرى تداولها شفوياً بين العامة، ولذلك لم تسجل كما سجلت الأعمال الفكرية والأدبية التى أنتجها مفكرون وأدباء باللغة القابلة حينئذ للكتابة، لكننا مع ذلك نلتقى بثروة ثمينة من الحكم والنصائح التى تختصر الكثير من التجارب الإنسانية، والتى كان يقدمها أصحابها من ذوى الخبرة إلى أبنائهم لكى يعملوا بها فى شئونهم اليومية أو يستهدوا بها فى حياتهم. ومن خصائص تلك الحكم والنصائح أسلوبها السهل المباشر، والذى كان يعتمد على الاختصار مما يقربها كثيرا من الأمثال الشعبية . يقول الحكيم بتاح محب: لا تقس قلبك حين القسمة ولا تبتغ ما لا يخصك ولا توغر قلبك إزاء أقاربك وإنه لتافه ذلك الذى يستأسد بين أهله، وهو محروم من حصائد الحكمة ! والشىء الطفيف الذى يطمع فيه .. يولد البغضاء حتى فى صاحب الطبيعة الباردة وقد جاء بعض هذه النصائح والحكم مطابقا لمعانى أمثال شعبة متداولة فى العصر الحديث، ففى نصائح الحكيم بتاح-حتب: "لا تكون فخورا بمعلوماتك، استشر الجهال والعارف"، وهو ما يقابل فى ثقافتنا الشعبية الحديثة: "ما خاب من استشار" و"شاور صغيرك كبيرك". ولنفس الحكيم: "ويبقى صاحب الحكم العادل الذى يسير على خط مستقيم"، وهو ما يقابل فى ثقافتنا الشعبية "الحق أحق أن يُتَّبع" وأيضا "إمشى عِدِل يحتار عدوك فيك". ومن حكم "عنخ شاشنقى" نقرأ: "لا تتحدث بصوتين"، ويقابله "صاحب بالين كداب" و"زى المش، كل ساعة بوش"، وفى بردية "عنخ شاشنقى" أيضا: "الشره لا يعطيك طعاما" ويقابله فى أمثالنا: "الطمع يقل ما جمع".وفى نفس البردية يقول المثل الفرعونى: "ما يضمره الإنسان يبدو على وجهه"، وهو يشبه المثل الشعبى "الجواب بيتقرى من عنوانه". ويقول أحد الحكماء المصريين القدماء: "لا تحاول إنجاز عمل لا تقدر عليه" ويقابل المثل الشعبى: "إدى العيش لخبازه"، ويقول حكيم آخر: "إفعل الطيب وألق به فى وسط النهر"، وهو نفسه المثال الشعبى "إعمل لاخير وارميه فى البحر"، ويقول الحكيم "حقا نخت" فى إحدى رسائله: "نصف الحياة أفضل من الموت"، وهو يشبه المثل الشعبى "نص العمى ولا العمى كله" وجاء قى قصة الملاح الناجى مثلا يقول: "فم الإنسان ينجيه" يقابلة المثل الشعبى الشهير "لسانك حصانك إن صنته صانك وان هنته هانك". وهكذا يمكن السير طويلاً فى هذا الطريق، وهو (ما ترسب فى نهر الأمثال الشعبية، المتوافرة لدينا باللهجة العامية المصرية، من روافد الأمثال والحكم والمواعظ لدى المصريين القدماء) ولعلنا بهذا نشير إلى إمكانية وجود التواصل بين الطبقات الثقافية التى تراكمت فى ذاكرة الشعب المصرى عبر عصوره القديمة والوسيطة والمعاصرة المصادر: بحث "الحكم والأمثال عند المصريين القدماء"– د. عبد الحليم نور الدين. كتاب "الحكم والأمثال والنصائح عند المصريين القدماء" - محرم كمال. كتاب "الفلسفة المصرية من الأمثال الشعبية" - د. حامد طاهر.