الشهيد عثمان غارق في دمائه الطاهرة, امتدت اليه اليد الآثمة وقتلته, كان يمكنه ان يغادر المكان, وأن ينتحي جانبا, لكنه, كان قد وطد عزمه علي الصمود امام الاخطار, ويقال انه كان قد تحدث الي اصحابه بأنه مقتول في ذلك النهار. أما عن اسرة الشهيد وأتباعه, فقد ثارت ثائرتهم, واتجهوا الي الحاكم الجديد, يبكون ويولولون ويهتفون بكلمات ملحنة منغمة تحرك قلب الحجر. ويطالبون بدم الشهيد وحقوقه, ويذكرون الحاكم بأن عليه ان يقتص من القتلة, وان يقيم شرع الله, وألايجرمنه شنآن قوم علي الا يعدل. وراحوا يذكرونه بقول العلي القدير: ولكم في القصاص حياة يا أولي الالباب ثم صعدوا من احتجاجاتهم, واتهموا الحاكم الجديد بالتباطؤ ثم التباطؤ, وهددوا بالخراب وبعظائم الأمور. ورد الحاكم الجديد مستنكرا ومتعجبا من اتهامه بتعطيل حدود الله, وانه يتعمد اضاعة حقوق الشهيد, لكنه لا يعرف قاتلا بعينه للشهيد, وأنه يواصل البحث بين الجموع الحاشدة ليصل لتحديد القاتل, والمعروف انه من أعقد الأمور وأصعبها, تحديد القاتل اذا تم القتل من مجموعات كبيرة من البشر, وهذا شيء ثابت منذ فجر التاريخ. وراح الحاكم التقي الورع يؤكد ان العدالة وان كانت تقوم علي القصاص من القاتل, فإن العدالة تقوم ايضا علي المقاضاة واحضار البينة, وانه ليس في الشريعة الاسلامية مايسمح بإقامة الحدود بناء علي الضغوط والشبهات, بل علي الدليل والبينات, وهو لايجد الآن القدرة الكاملة علي التحقيق العادل وتحديد القاتل. وعن هذه النازلة التي حدثت في صدر الاسلام يحدثنا التاريخ عن ان المدينةالمنورة ظلت اياما عقب اغتيال الخليفة التقي الورع عثمان بن عفان, وليس فيها الا الاضطرابات والفوضي.. وانه ماكان بوسع الامام التقي الورع علي كرم الله وجهه الذي تولي الحكم ان يعرف قاتل الشهيد عثمان, فالجريمة شائعة والفوضي ضارية!! ويحدثنا عميد الادب العربي د.طه حسين في رائعته الفتنة الكبري ويقول مانصه حرفيا.. ان المدينة كانت في ايدي الثائرين بحكم الواقع, وهم يحتلون المدينة احتلالا عسكريا, ولاقدرة للخليفة الجديد عليهم.. ويقف القعقاع بن عمرو أحد اصحاب الامام علي و ينادي في الناس ان الخير انما يكون في التمهل والاناه حتي تستقيم الامور, ويقوي سلطان الخليفة ثم ينظر الامام في القضية فيتحري الأمر فيها علي ماقضي في الكتاب والسنة ويضيف عميد الادب العربي في الجزء الاول من رائعته ص12 مانصه ان الخليفة الجديد ومن بايعه لم يكونوا في الواقع في أيدي الثوار الا أسري!! ويوم آخر يقول القعقاع مانصه ايها الناس ان هذا الامر دواؤه التسكين واجتماع الشمل حتي اذا صلح الامر وهدأت الثائرة وامن الناس واطمأن بعضهم إلي بعض نظر الخليفة في امر الذين احدثوا هذه.. الفتنة.. ايها الناس اعلم اني اقول هذا وماأراه يتم حتي يأخذ الله من هذه الامة مايشاء, فقد انتثر امرها والمت بها الملمات, وتعرضت لبلاء عظيم. كان الامام علي كرم الله وجهه يفرق بين الثوريين المتحمسين الذين التبس عليهم الامر وظنوا وتوهموا وصدقوا في ثورهم غضهم انه يتباطأ في تطبيق حدود الله, وهؤلاء كان الامام يستغفر لهم ويسعي لارشادهم وافهامهم انهم بتعصبهم لرأيهم وتمسكهم بسوء ظنهم سوف يتسببون في شق قلب هذه الامة, وسوف يقصمون ظهرها ويلحقون بها اشنع الاذي, بينما هم يحسبون انهم يحسنون صنعا! لكن هيهات فقد سكروا عقولهم وأوصدوا قلوبهم.. اما الأبالسة الذين اغتنموا الفرصة ليكيدوا للحاكم الجديد وليثيروا الفوضي تمهيدا للاستيلاء علي الحكم, فلم يكن امام الامام الا ان يقاتلهم بالسيف حتي تستقيم الامور ولاتضيع الامة. ويهتف السفهاء لقد كنتم تحلبونها لبنا, فلن تحلبونها من اليوم الا دما! ويختلط الدين بالسياسة, والعنف بالتعصب ويختفي التسامح ويتكلم الإمعات وتقوم الانصاص ويغيب الرجال,. ويأخذ الأبالسة قميص عثمان المضرج بدمائه الطاهرة و يطيرون به الي الشام, وحيث ينتظرهم هناك الداهية معاوية, ويرفع القميص, مطالبا بالحكم, ويتساءل: اين دم الشهيد عثمان! وتدور المعارك ويتورط المسلمون في شر عظيم, وتقع الانقسامات ويظهر الشيعة ويبرز الخوارج وهم قوم يثورون علي كل خلافة, وينتفضون علي كل ملك, ويحاربون الحاكم ما وجدوا إلي هذا سبيلا, ويكثر المكر والكيد والاختراع, وتقع الفتنة الكبري التي يعاني المسلمون من ويلاتها منذ ذلك الوقت. هذا عما كان في القرن الأول الهجري, أما عن الحاضر والمستقبل فلسوف يسجل التاريخ في انه القرن ال41 هجري الموافق 12 ميلادي, فان القوي العظمي تسعي الآن إلي بث الفوضي والخلاقة من خلال احياء هذه الفتنة القديمة, لإيجاد فتن جديدة اشد هولا, وافتك تأثيرا, حيث يجري الآن بدهاء الأبالسة إعادة تقسيم العالم الإسلامي, وتخليق وتجميع قوي سنية لتتصارع مع القوي الشيعية, فتسيل الدماء أنهارا وبهذا يتم تحطيم الإسلام هذا العدو الأخضر من داخله, ويصبح المسلمون كأجزاع النخل الخاوية, ومازال العرض مستعرا, فما بال أكثر الناس لايفقهون.