كان الصبيان والبنات فى حوارى القاهرة وقرى الدلتا والصعيد ينتظرونه على أحر من الجمر. ذلك الرجل صاحب البدلة السوداء المدهشة الذى يأتى محملا بصندوق الدنيا الثقيل ليجلسوا أمامه ويتابعوا الصور الفوتوغرافية التى يعرضها الصندوق، ليبدأ الرجل فى حكى قصص ألف ليلة وليلة وحكايات التبات والنبات ...واتفرج يا سلام. هذا المشهد عاد مرة أخرى منذ خمسة عشر عاما مع مركز توثيق التراث الحضارى والطبيعى الذى صنع صندوقا جديدا للدنيا، والبداية كما يقول المهندس محمد فاروق القائم بأعمال مدير المركز كانت قبل يناير عام 2000 كأحد مشروعات وزارة الاتصالات، وكانت الفكرة الرئيسية أن نضيف للمحتوى الرقمى بتقديم ثقافتنا المصرية الكترونيا، بعدها بعامين انضممنا إلى مكتبة الاسكندرية، وأصبحت مهمتنا هى توثيق وحفظ كل التراث المصرى لتعريف الناس به. وعندما نتحدث عن التراث الحضارى والطبيعى فإننا نعنى التراث المادى المهتم بالمواقع الأثرية والمخطوطات والصور القديمة، والتراث المعنوى المهتم بالموسيقى والكاريكاتير والتراث الشعبى والحرف اليدوية. ولدينا برامج مستمرة نقوم خلالها بجمع وتكوين قاعدة بيانات تظهر فى كتب واسطوانات وبانوراما تراثية ومتاحف تخيلية. ومن أهم مشروعاتنا مشروع ثلاثى الأبعاد للآثار المصرية، وحجم البيانات الموجودة فى هذا المشروع ضخم للغاية. ونحن عادة نبدأ بمشروع استرشادى لتكوين قاعدة بيانات ليكون لدينا تصور لأى برنامج نقوم به. وهذا يتطلب عملا شاقا لأن مصر لا تملك توثيقا فوتوغرافيا لكل آثارها. كما ابتكرنا برنامج السياحة فى مصر Egypt Travelبالاشتراك مع هيئة تنشيط السياحة ويمكن للسائح ان يضعه على الهاتف المحمول مجانا ويضم بانوراما للمواقع الأثرية والأماكن السياحية، و برنامجا آخر بمبادرة من وزارة السياحة وهو مصر الآن Egypt Now ويعتمد على فكرة البث الحى من المواقع الأثرية عن طريق مجموعة من الكاميرات لنثبت أن مصر آمنة. ولدينا مشروعات كثيرة حول توثيق التراث السيناوى والنوبى، وذاكرة الأزهر الشريف فى ألف عام وهو موجود حاليا بشكل تجريبى باللغة العربية وسينطلق باللغتين الانجليزية والفرنسية أخر ديسمبر. ومن أهم مشروعاتنا ذات البعد السياسى والقومى بانوراما تراث دول حوض النيل، وبدأنا ببانوراما للتراث فى الكونغو هدية من الحكومة المصرية لتصبح زيارتها جزءا من مناهجهم الدراسية، وحصلنا على براءة اختراع عام 2007 عن بانوراما التراث التفاعلى . بانوراما مصرية: وتتحدث هبة المسيرى المنسقة بالمركز عن عرض رحلة إلى حضارة مصروتاريخها عبر العصور, تقول إنه من أهم العروض البانورامية التى تتبع تاريخ مصر من العصر الفرعونى الذى يبدأ من 3000 قبل الميلاد حتى العصرالحديث، وتضم البانوراما أكثر من مستوى للمعلومات، وتبدأ بالحكى بشكل مبسط، لنتعرف على مزيد من التفاصيل خلال أكثر من مستوى. ففى العصر الفرعونى نبدأ بسرد مبسط عن حياة الفرعون، ثم نستكمل بمعلومات عن عصره ومقبرته وانجازاته، وشكل مجسم ثلاثى الأبعاد لتمثاله وحجرة الدفن لنحقق فكرة الجولة البصرية. وفى العصر القبطى نستعرض كل الأديرة والكنائس ورحلة العائلة المقدسة، ونتناول مساجد ومدارس وخانقاوات وتكايا وقلاع العصر الاسلامى. وفى العصر الحديث نرى القاهرة من النيل حيث صوّر الأخوة لوميير مخترعو فن السينما ثانى أقدم فيلم فى العالم وهو فيلم قصير صُور على كوبرى قصر النيل، ويمكن الانتقال إلى أحياء مثل مصر الجديدة والزمالك ووسط البلد. ويرعى المركز أكثر من عشرين مشروعا منها ما هو خاص بالفلكلور المصرى والعادات والتقاليد المصرية، والتوثيق المعمارى للقاهرة الخديوية ووسط البلد, لتتبع معمار القرن التاسع عشر الذى شهد أكثر من مهندس وطراز معمارى وتأريخا لكل تفصيلة للمبنى وحتى مقابض الأبواب. أما خريطة مصر الأثرية فتوثق كل المواقع على أكثر من مستوى، و يحكى موقع مصر الخالدة عن مصر منذ زمن الفراعنة ، بينما يعرض موقع متحف مصر العالمى كل قطع الآثار المصرية الموجودة فى كل متاحف العالم. ويضم توثيق التراث الطبيعى كل النباتات والحيوانات والمحميات الطبيعية الموجود بمصر، وتحتفظ ذاكرة مصر الفوتوغرافية بأكثر من 1300 صورة قديمة لأشهر مصورى القرن 19، كما نتعرف على أم كلثوم وعبد الوهاب وسيد درويش وسلامة حجازى من خلال التوثيق الموسيقى. وليست هذه كل الحكاية، فهناك تتبع لتراث مصر الكارتوغرافى, اى المختص بالخرائط المصرية القديمة, وتراث مصر الاقتصادى، وتاريخ القصور الرئاسية ومنها قصر عابدين والطاهرة وقصر الأميرة شويكار وتراث مصر الصحفى. كما يوجد توثيق المخطوطات العلمية والاسلامية ومخطوطات الفلك والكيمياء، وفى قاعة فرسان السماء يوجد كل ما هو خاص بقياس الوقت والمزولة والاسطرلاب والساعات المائية والرملية ولدينا نماذج صنعت من مخطوطات أصلية كما هى الحال بالنسبة للساعة المائية التى كانت موجودة بسوريا وحرقت. والمهمة التى يحققها المركز هى الوصول إلى العمق المصرى كما يقول د. فتحى صالح الرئيس الشرفى فليس معنى إصدار أطلس أن المهمة انتهت. فلدينا الآن أطالس لمعظم المحافظات ونستكمل تفاصيل دقيقة فى الصحراء الشرقية. وفكرة تكوين قاعدة بيانات ليست بالمهمة السهلة, فنحن لا نوثق فقط ولكننا نتتبع التاريخ، ومهمتنا أن نجعل أى إنسان يتعرف على واقع التراث عن قرب. فساكن وسط البلد مثلا سيتعرف على أشياء لم يكن يعرفها. وحتى القطع الأثرية الناقصة نتخيل شكلها الأصلى لنستكملها وهو ما يعنى التوثيق الكامل وليس مجرد التعديد أو العرض للمواقع الأثرية. ولدينا عروض تفاعلية و أفلام تكشف عمق تاريخ المعابد المصرية. فنحن الآن نعمل بكامل طاقاتنا ، لننافس العالم بتراث مصر..