لم أندهش كثيرا عندما أبلغنى " زبير الشهودي" القيادى بحزب حركة النهضة الإسلامية ومدير مكتب رئيسها " راشد الغنوشي" بأن حركته سعيدة بالانتخابات التشريعية ونتائجها ، رغم أنها حلت ثانية بعد منافسها وخصمها حزب حركة نداء تونس برئاسة البورقيبى العتيد "الباجى قائد السبسي". نتائج انتخابات الأحد الماضى افادت بأن النهضة خسرت 20 مقعدا مما كان لها فى المجلس التأسيسى المنتخب قبل ثلاثة سنوات . فانحسرت كتلة نوابها من 89 الى 69 نائبا من اجمالى 217 مقعدا . كما صوت لها هذه المرة نحو مليون ناخب مقابل نحو 1.4 مليون فى أكتوبر 2011. لكن اسلامييى تونس ،الذين يقولون انهم منفتحون على الحداثة ومتميزون عن الاخوان المسلمين فى مصر وانهم قطعوا الصلة بالتنظيم الدولى للجماعة، سيظلون على مدى السنوات الخمس المقبلة ( عمر البرلمان الجديد) رقما صعبا وقوة يحسب لها حساب فى موازين القوى السياسية داخل تونس . فالإنتخابات التشريعية افرزت برلمانا برأسين عملاقين :هما النداء ( 85 نائبا ) والنهضة. و خلفهما وعلى مسافة بعيدة ثلاثة كتل برلمانية فقط ذات شأن ما وهى : الإتحاد الوطنى الحر (16 مقعدا ) و الجبهة الشعبية اليسارية ( 15مقعدا) و حزب آفاق الليبرالى ( 8 مقاعد). أما ما هو دون ذلك ففسيفساء لا يتجاوز أكبر قطعها حجم الأربعة مقاعد ( حزب المؤتمر برئاسة الرئيس المنصف المرزوقى ) و الثلاثة مقاعد ( حزب المبادرة برئاسة كمال مرجان وزير الخارجية الاسبق فى آخر عهد الدكتاتور بن على ) . خسارة النهضة تتمثل أيضا فى أن حليفيها العلمانيين فى تجربة حكم "الترويكا" قد سقطا سقوطا مدويا .وكأن الناخبين أرادوا عقابهما على شراكتهما للاسلاميين فى الفشل الاقتصادى والأمنى وفى اطلاق وعود بتحقيق أهداف ثورة 14 يناير لم تعرف سبيلها الى الانجاز . فبعدما دخل " المؤتمر" الى المجلس التأسيسى الذى انيط به اصدار الدستور الجديد بتسعة وعشرين مقعدا هاهو لم يحصد إلا أربعة . أما حزب التكتل برئاسة رئيس المجلس التأسيسى مصطفى بن جعفر فقد خرج من انتخابات الأحد الماضى بمقعد يتيم بعدما دخل " التأسيسي" بعشرين مقعدا . ومع كل هذا فإن ما أبلغنى به " الشهودي" يعكس الى حد كبير الأداء العام لحركة النهضة ازاء نتائج الانتخابات . فقد حرصت قيادتها على امتداح سير العملية والهيئة المشرفة عليها ،و كانت الأقل شكوى وتذمرا من " التجاوزات" . ولقد سوقت لخطاب يرحب بالنتائج و يهنئ الخصم الذى حل أولا .بل والأهم انها اخذت تنسج على منوال دعايتها خلال الحملة الانتخابية بأنها تضع مصلحة تونس قبل النهضة ،وبأنها اقدمت عن التخلى على الحكم لأن "التوافق الوطنى " هو الأهم والأبقي. لكن أداء النهضة هذا لا يخلو من أسباب عملية برجماتية . فالحركة وقياداتها تدركان بأن الريح فى المنطقة العربية بأسرها غير مواتية لدفع أشرعة الإسلاميين وبأن عليها التعلم من أخطاء الاخوان فى مصر وما جرى لهم . وأيضا لكون غالبية التونسيين أنفسهم غير راضين عن ادائها فى الحكم .ومن ثم فانها خرجت من هذه الانتخابات التشريعية بأقل الأضرار . وعلى نحو يجعل من خسارتها هزيمة بطعم الرضا . وفى هذا السياق ، فإن " النهضة " تتطلع الى أمرين : الأول ان تكون الرقم الأهم وصاحبة الأصوات المرجحة فى انتخابات الرئاسة المقرر لها 23 نوفمبر الجاري. ومن ثم فان قيادة الحركة تبقى خياراتها مفتوحة على 27 مرشحا .علما بانها امتنعت عن خوض الانتخابات الرئاسية بمرشح عنها تعلما من تجربة اخوان مصر . والأمر الثانى ان النهضة تضع عينها على الانتخابات البلدية المقرر لها العام المقبل، مع الأخذ فى الاعتبار ما يمنحه الدستور الجديد للمجالس المحلية المنتخبة من سلطات واسعة تؤثر على معيشة المواطنين .وفى كلا الأمرين فإن إسلاميى تونس يبدو حريصين على العودة الى المشاركة فى حكم البلاد و فى اكتساب خبرات ادارة الدولة. لكن فرص تشكل حكومة وحدة وطنية إئتلافية واسعة يرأسها النداء وتضم النهضة ليست مؤكدة رغم انها غير مستبعدة تماما . فنتائج انتخابات الأحد الماضى كشفت عن سطوة الاستقطاب بين اسلاميين وعلمانيين فى تونس . وسيكون من الصعب على قيادة النداء اقناع ناخبى حزبها بعد شوط طويل من التخويف من مشروع الدولة الدينية بالتحالف مع النهضة . هذا مع ان الخيارات الاقتصادية والاجتماعية للحزبين الكبيرين «النداء» و«النهضة» واحدة والى جانب الليبرلية الجديدة. وهما يصنفان على الخريطة السياسية لتونس بأنهما معا ينتميان ليمين الوسط. ولعل أحد العناصر المؤثرة فى رسم مستقبل الحكم فى البلاد هو القرار السياسى لمجتمع رجال الأعمال . فقد أفرزت الانتخابات برلمانا يضم رجال أعمال من الوزن الثقيل ضمن الكتلتين البرلمانيتين للنداء والنهضة . كما يقود رجلا أعمال حزبى " الاتحاد الوطنى الحر"( سليم الرياحي) و"آفاق" ( ياسين إبراهيم). وللحزبين كتلتا نواب فى البرلمان الجديد تحتلان المرتبتين الثالثة والخامسة . ولذا فمن المرجح ان تصبح كلمة رجال الأعمال والاستثمار مؤثرة فى تقرير تحالفات الحكم. وهذا مع أن اليسار ممثلا فى تحالف " الجبهة الشعبية " برئاسة حمة الهمامى حقق حضورا غير مسبوق فى تاريخ الحياة البرلمانية للبلاد.