الحديث عن «مستقبل الثقافة فى مصر» لم ينقطع يومًا منذ أن طرحه طه حسين فى كتاب يحمل هذا العنوان ذاته، ولكن هذا الموضوع أصبح مُلحًا ومطروحًا بقوة بعد اندلاع ثورة الخامس والعشرين من يناير. وهذا يعنى أن هناك صلة وثيقة بين الثقافة والثورة، بل إننا نزعم أن الثقافة هى المكوِّن الجوهرى الرئيسى للثورات الحقيقية. وهنا لا بد أن نتوقف لنحدد ما الذى نعنيه بكل من مفهومى «الثورة» و«الثقافة» من خلال نوع من التعريف الإجرائى (أى من خلال تعريف سوف نتخذه ونلتزم به هنا)؛ نظرًا لتعدد التعريفات والمنظورات التى يتم من خلالها تداول هذين المفهومين: لنتساءل أولاً: ما الذى نقصده بالثقافة؟ أعني: ما المنظور الذى سوف ننظر من خلاله إلى الثقافة؟ إننى هنا أفهم الثقافة بمعناها الأكثر اتساعًا، باعتبارها رؤيةً للعالم والحياة والوجود، تنعكس فى سلوكنا اليومى وأسلوب حياتنا: الفكر هنا يتجلى فى العالم وفى الوجود، فى عالمنا ووجودنا الخاص. ويحضرنى هنا قول بليغ عن الثقافة لمفكر فرنسي، وهو: «إن الثقافة الحقيقية هى ما يتبقى فى أنفسنا بعد أن نكون قد نسينا ما حفظناه». فمن أين يأتى ما حفظناه؟ إنه يأتى مما تعلمناه فى المدارس والجامعات، ومن خلال آلة الإعلام الضخمة الجبارة فى عصرنا الراهن، ومن خلال المواعظ الدينية التى شكلت معتقداتنا ورؤيتنا للدين نفسه، ومن خلال الفن والأدب اللذين يقدمان لنا رؤية إنسانية عامة مجسدة فى عادات وتقاليد وأمكنة وأزمنة تنتمى إلى عالمنا الخاص. ولنتساءل ثانيًا: وما الثورة؟ إن الثورة- فى أبسط معانيها- عمل شعبى تقدمى مناهض لسلطة النظام القائم؛ ومن ثم فهو يسعى إلى تغيير هذا النظام من أجل نظام آخر يُراد له أن يحل محله. كان هذا هو طموح ثورة الخامس والعشرين من يناير، ولكنه طموح لم يوجهه عقل أو فكر يسبقه ويمهد له ويضعه على الطريق الصحيح الذى يؤدى إلى بلوغ الأهداف المرجوة. حقًا إنه كان هناك الكثير من المقالات والمواقف المحرضة على الثورة، ولكنها لم تشكل تيارًا ثقافيًا متغلغلاً فى وعى الشعب. ولا أريد أن أوحى هنا بأن الثورة المصرية كانت مجرد انتفاضة، كما يحلو للبعض أن يصورها؛ وإنما هى ثورة حقيقية متفردة لم تكتمل بعد: فهذه الثورة هى بالضبط ما منع انتفاضة الجياع فى مصر التى كان من الممكن أن تقضى على الأخضر واليابس؛ ولهذا انضم الجياع والمهمشون والفئات المحبطة والمقهورة إلى الطلائع المثقفة من نخب الشباب الذين أشعلوا فتيل الثورة، فشكلوا معًا عشرين مليونًا انتشروا فى ميادين مصر يطالبون بأهدافهم بشكل سلمى من خلال ضغط أو رفض شعبى هائل لم يصمد أمامه النظام القائم بكل جبروته. حقًا كانت هناك نخبة مثقفة، ولكن الجموع الهائلة لم تكن مدفوعة برؤية ثقافية، وإنما دفعتها مطالبها الإنسانية وحاجاتها الراهنة. إن هذا الفراغ الثقافى (أعنى الافتقار إلى مشروع ثقافى أو رؤية مستقبلية) هو ما سمح لكل الانتهازيين من الأحزاب الخاملة وغيرها من التيارات الدينية المتشددة وخلاياها النائمة بالقفز على الثورة والمتاجرة بها، والسعى إلى توجيهها وفقًا لحساباتها ومصالحها الضيقة. فقد انتهز كل هؤلاء اللحظة التى أسقط فيها غيرهم النظام القائم، ووجدوا الساحة خالية من أى مشروع ثقافى يؤسس لنظام جديد؛ ومن ثم وجدوا الفرصة سانحة للفوز بالغنيمة: الفوز بسلطة الدولة ذاتها، مستغلين الكثرة من المغيبين المفتقرين إلى الثقافة، وغيرهم من المدفوعين بمشاعر وعواطف دينية فجة، وبرغبات سلطوية وانتهازية. ولا شك إن تفرد الثورة المصرية لا يكمن فحسب فى سلميتها، وإنما فى أيضًا فى التعبير عن هذه السلمية بشكل حضارى أو ثقافي. لقد تبدى ذلك منذ بدء الثورة نفسها: فى الفنون التى كان يعبر بها الشباب عن رفضهم للنظام القائم: فى فن الجرافيتي، والعرض المسرحي، والأغنية الثورية المستلهمة من كفاح الماضي، وفى الشعر نفسه، بل فى فن النكتة ذاته الذى طالما برع فيه المصريون. غير أن هذا كله إنما هو تعبير عن الروح التى تجلت أثناء الثورة، وعن «حساسية جديدة» (إذا استخدمنا تعبير هربرت ماركوزه Herbert Marcuse)، ولكنه لا يؤسس بذاته ثقافة جديدة تقوض بنية النظام القائم. إن المشروع الثقافى الذى يمكن أن يُحدِث تغييرًا حقيقيًا، ومن ثم يمكن أن يعمل على اكتمال الثورة وتحقيقها لأهدافها، هو مشروع لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال الشروط التالية: إصلاح شامل فى النظام التعليمي، وذلك من خلال تأسيس تعليم ليبرالى يسعى إلى تأهيل مواطن مثقف قادر على الفكر الخلاق، وعلى الإبداع فى العلم والفن، وعلى الإنتاج فى مجال التطبيقات التكنولوجية للعلوم التى تخدم الحياة والرفاهة. تأسيس ثقافة تنوير حقيقية، يساهم فى تشكيلها نظام تعليمى ليبرالى جاد، وإعلام تثقيفى حر غير مسيَّس؛ ووزارة للثقافة تعمل على رسم سياسة ثقافية للبلاد تخدم هذا التوجه، وتعمل على وصول المنتج الثقافى لمستحقيه فى ربوع مصر كافةً. فالواقع أن الثورة لم تسبقها هذه الثقافة التى تمهد لها، وليس من المعقول أن نتصور تغلغل الثورة فى وعى شعب لا يزال أكثره من الأميين (بالمعنى الواسع لمفهوم «الأمية»)؛ ومن ثم لا يعى مفاهيم من قبيل «الدولة المدنية» وما يرتبط بها من مفاهيم أخرى مثل: الديمقراطية والليبرالية والعلمانية فى مواجهة مفاهيم أخرى مثل: الشمولية والاستبداد والفاشية بكل صورها، التى أخطرها الفاشية الدينية..إلخ. فلا شك أن هذا الفراغ الثقافى هو ما يسمح للاتجاهات الرجعية (ممثلة فى جماعة الإخوان «المتأسلمين» والسلفية الدينية المتشددة وغيرها من الاتجاهات الانتهازية) بالانقضاض على فعل التغيير الثورى ومحاولة إجهاضه. تفكيك علاقة الدين بالسلطة: أعنى الدين الذى يريد أن يستخدم السلطة، والسلطة التى تريد أن تستخدم الدين لتحقيق مآربها. تلك هى الآفة الكبرى المسئولة عن تخلف المسلمين عبر قرون عديدة. ومن الواضح أن الموقف الأول (الدين كسلطة حكم) لا يزال يتجلى فى الخطاب الدينى السائد فى مصر، والذى يبلغ ذروته فى الخطاب السلفي؛ أما الموقف الثانى (وهو تطويع الدين فى خدمة السلطة القائمة) فهناك شواهد عديدة واضحة عليه منذ العقود التالية على عام 1952. إن كلا الموقفين يشكلان خطابًا سلطويًا يتسم برفض التعددية الدينية ويستخدم الدين مرجعًا للسياسة أو أداةً لها، وذلك بخلاف الروح التى كانت سائدة فى مشروع النهضة للدولة المصرية المدنية الحديثة فيما قبل سنة 1952. فالسادات- على سبيل المثال- كان يحاول إحلال الأيديولوجية الدينية الإسلامية لضرب اليسار المصري، فى حين أن مشروع مبارك كان يغذى الصراع لا التعددية الدينية، من أجل ضمان بقائه كضرورة للسيطرة على هذا الصراع الذى ينذر بخطر محدق دائمًا. أما ثورة يناير فقد قفزت عليها التيارات الدينية الرجعية المتزمتة لإجهاض روح المواطنة التى تتجاوز العقائد والأديان، وهى الروح التى تجلت فيها كومضة متوهجة. الشاهد هنا أن رفض التعددية الدينية إنما هو تقويض لركن أساسى من أركان الدولة المدنية. الإيمان بأن الإسلام فى جوهره ليس مشروعًا للحكم وإنما للدعوة التى يمكن أن يهتدى بها الحكم الرشيد. والحقيقة الغائبة عن الدوجماطيقية الدينية التى تحاول اعتلاء الثورة وفرض خطابها عليه، هى أن الحضارة الإسلامية لم تزدهر إلا فى تلك الفترات التى استلهمت فيها روح الدين وجوهره باعتباره قوة روحية محرضة على التقدم والعلم والإبداع فى شتى مناحى الحياة، وهو ما يتجلى فى روح الدين الإسلامى من خلال: تأكيد قيمة المواطنة: وهى قيمة يشهد بها صدر التاريخ الإسلامى نفسه، حينما عقد الرسول الكريم وثيقة تآخ بين المهاجرين والأنصار واليهود باعتبارهم المدافعين عن المدينة. حرية الفكر والاعتقاد، والإيمان بتعددية الأديان: وليس هذا باستقراء أو استدلال، وإنما هو أمر تشهد عليه آيات عديدة من القرآن نفسه، من قبيل: «وقل الحق من ربكم، فمن شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر» «لا إكراه فى الدين» «لو شاء ربك لآمن من فى الأرض كلهم جميعًا. أفأنت تُكرِه الناس حتى يكونوا مؤمنين» «لست عليهم بمسيطر» «لكم دينكم ولى دين» «.. وقولوا آمنا بالذى أُنزِل إلينا وأُنزل إليكم وإلهنا وإلهكم إله واحد ونحن له مسلمون» (سورة العنكبوت: آية 46). ............... لا شك أن الحديث عن الثورة والثقافة كان من المفترض ألا يتعرض إلى مسألة الدين؛ لأن الدين نفسه لم يكن يمثل أى مطلب من مطالب الثورة، ولا يدخل فى أى من أطروحاتها التى فرضتها بعد قيامها مباشرة. ولكننا نتحدث عن واقع، عن ثورة مضادة حولت خطاب الثورة إلى خطاب رجعى مضاد لمفهوم العمل الشعبى النهضوى التقدمي. وربما تبدو الصورة قاتمة لدى شعب قام بثورة ليجد نفسه مضطرًا (على الأقل من خلال نُخبه الثقافية) إلى أن يتورط فى مناقشة قضايا لا علاقة لها بالثورة- ولا حتى بجوهر الدين نفسه- يطرحها أناس لم يشاركوا فى الثورة ولا يفهمون روح الدين، شكَّلهم على مهل- دون قصد- نظام سياسى قمعى سلطوى مستبد يجعل كثيرًا من البشر يلوذون منه بالالتحاف بقشرة خارجية من الدين أو العرق، أو يجدون ضالتهم فى أفكار عدوانية قمعية مضادة يتم الترويج لها باسم الدين، أفكار أتت من لهيب صحارى حارقة لم تعرف الحضارة يومًا ما. ولهذا هب المصريون من سباتهم مرة أخرى فى الثلاثين من يونيو 2013، ليستردوا ثورتهم المسلوبة. ومع ذلك، فإن الثورة لا تزال بمنأى عن وعى جموع الناس وثقافتهم، ووعى الناس لن يتغير بذاته، وإنما سيتغير عندما تتحقق على الأقل الشروط التى ذكرناها من قبل؛ فذلك هو ما يمكن أن يبعث الثقافة المتراكمة عبر التاريخ، المطمورة فى أعماق سحيقة ، ليضيف إليها ويبنى عليها.