الأهرام تعود، كانت هذه هي الخلاصة التي توصلت إليها من حصاد ثمار الزيارة الفريدة التي قام بها الأستاذ محمد حسنين هيكل لمؤسسة الأهرام، أو بيته وأسرته كما يفضل أن يقول بعد غياب قسري امتد أربعين عاماً . حاولت جاهداً أن أقرأ عينيه وهو يسير في أروقة صالة التحرير ومكتب رئيس التحرير وهو يتحدث إلي نخبة من المثقفين والمفكرين والكتاب والصحفيين في القاعة الكبري التي تحمل اسمه بالطابق الأول. أعتقد أنه كان يبحث عن أشياء كثيرة وكان يعانق تاريخاً لم ينفصل عنه، لكن أكثر ما شغلني في هذه الزيارة أن أعرف الهدية التي جاء بها ل «الأهرام»، فالرجل وكما أعرفه مضياف ولن يفوته أن يقابل الحسنة بما هو خير منها. كنت أعد نفسي لمفاجأة هيكل في هذه الزيارة. فها هي الأهرام بكل من فيها، بل وكل ما فيها يعانقه بحرارة معتذراً عن كل سنوات الفراق، وحتماً سيكون عند الأستاذ ما يقدمه من هدية تليق بمقام الأهرام، أو بالأحري باعتزازها وحبها، وربما عشقها الذي لم ولن يفارقه ل «الأهرام». ولم تخب توقعاتي، فها هو الرجل يحادث الأهرام: التاريخ والدور والمكانة، ويلقي إليها بما تستحقه من تقدير، عندما اختارها لأن تتحمل مسئولية التخطيط لمستقبل مصر وأن تقدم الرؤي وترسم السياسات والاستراتيجيات لإعادة بناء مصر واستعادة دورها العربي والإقليمي ومكانتها العالمية. فقد وجه نداء ل «الأهرام»، الذي يعرفه، بأن يبادر بتكوين مجموعة من المفكرين والشخصيات القادرة علي استشراف المستقبل، تتولي تقديم الدراسات اللازمة والقابلة للتنفيذ وقال: «أتمني أن يتبني الأهرام فكرة صناعة رؤية لمصر علي المدي القريب والمتوسط، تحدد لنا من أين نبدأ وإلي أين نتجه، ما ينبغي أن نفعله وما لا ينبغي أن نفعله«. كما أبدي استعداده لأن تكون «مؤسسة محمد حسنين هيكل» شريكاً في تحمل مسئولية تشكيل هذه المجموعة، وأن تحتذي بما فعلته »مؤسسة روكفلر« الأمريكية الشهيرة التي أدركت في لحظة فارقة من التاريخ الأمريكي أن الولاياتالمتحدة في حاجة إلي «رؤية جديدة للمستقبل» فقامت بتشكيل مجموعة عمل من أبرز العلماء والخبراء والمفكرين كل في مجال تخصصه وأسندت إليهم كتابة هذه الرؤية الجديدة للمستقبل الأمريكي، وهي الرؤية التي جري تقديمها للرئيس دوايت ايزنهاور الذي تحمس بدوره لها وجعلها مشروعه للنهوض الأمريكي. هيكل يري أن الأهرام »كمؤسسة« جديرة بأن تقوم بهذه المهمة، فالأهرام، وكما يراها هيكل، أكبر من أن تصدر جريدة ،بل هي مطالبة بأن تكون شريكة في صنع المستقبل المصري، وأن تنفتح علي كل العقول المصرية، وأن تشكل «الوعاء الفكري» أو «وعاء صنع السياسات» التي تحتاجها مصر، وأن تقدم رؤية مستقبلية شاملة لمصر التي نريدها. كانت هذه هي أعظم هدية قدمها هيكل ل «الأهرام» ولمصر، فالرجل ليس فقط من البنائين العظماء، ولكنه، وإن صح التعبير، أشبه بتاجر الأيقونات. هو يملك قدرة بارعة علي فرز الأفكار وفرز الأشخاص. والصرح الهائل الذي بناه هيكل في الأهرام لم يكن مجرد مبني رائع وعصري ولا أسلوب عمل ينافس الصحف الكبري في العالم، لكنه كان أيضاً بارعاً في انتقاء أبرز العقول والمفكرين والمثقفين ليكونوا جزءاً من «الصرح الأهرامي» اجتذب توفيق الحكيم ونجيب محفوظ ود. يوسف إدريس ود. لويس عوض، ود. حسين فوزي وكثيرين غيرهم. كانت الأهرام في عهد هيكل قوة جذب للعقول والمبدعين ولكل ما هو رائع. كما أسس عام 1968 «مركز الدراسات الفلسطينية والصهيونية» ليكون وعاءً فكرياً لإدارة الصراع مع الكيان الصهيوني، واجتذب إليه أبرز المفكرين الاستراتيجيين وهو المركز الذي كان أحد «النقاط المركزية» في إدارة حرب أكتوبر، الذي تحول في نهاية عام 1974 إلي «مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية». مطلوب أن تعود الأهرام جاذبة وليست طاردة للعقول والأفكار، فقوة الأهرام ليست في أبنيتها ومنشآتها أو حتي في إصداراتها، ولكن في الإنسان المبدع القادر علي العطاء المميز، ومطلوب أن تأخذ الأهرام دعوة الأستاذ هيكل مأخذ الجد، وأن تحرص علي أن تجعل الأستاذ راعياً لمجموعة العمل التي ينادي بها، لأن في وجوده ضمانة كبري لتفعيل دور هذه المجموعة، وبالذات ما يتعلق بعملية «مؤسسة صنع السياسة وصنع القرار» في مصر، بحيث تكون هذه العملية «عملية مؤسسية» تسهم فيها مراكز البحوث والدراسات بكل أنواعها، وألا تكون محض اجتهادات شخصية للقيادات. أقول ذلك لأن لي شخصياً تجربة سلبية مباشرة بهذا الخصوص عندما كتبت هنا في الأهرام بتاريخ 22/10/2013 مقالاً بعنوان: «خطورة غياب العقل الاستراتيجي» كنت أتحدث فيه عن التطورات الهائلة التي تحدث في مصر وحول مصر عربياً وإقليمياً ودولياً، ومدي حاجة مصر إلي «البوصلة» التي تحدد أين نتجه، ومدي حاجة مصر إلي «وعاء فكري» يرسم السياسات العليا ويحدد ماذا نريد ولماذا. كتبت ذلك بعد فشلي في الحصول علي أي استجابة من »لجنة الخمسين« المكلفة بإعداد الدستور علي مقترحي الذي تقدمت به إلي هذه اللجنة بتضمين الدستور نصاً يتعلق ب «مؤسسة مجلس الأمن القومي» يختلف جذرياً مع النص الوارد في دستور 2012 بخصوص هذا المجلس، لا يتعامل مع الأمن القومي بالمفهوم الضيق للأمن، ولكن يتعامل معه من منظور سياسي- اقتصادي اجتماعي- ثقافي، وأن يكون وعاءً للفكر وللتخطيط الاستراتيجي وللرؤي المستقبلية، وأن يضم في صفوفه النخبة المميزة من المفكرين والعلماء والخبراء المدنيين والعسكريين جنباً إلي جنب لتكوين »عقل استراتيجي« قادر علي الدراسة والتحليل والتخطيط والتنبؤ وتقديم المقترحات والرؤي والسياسات في مجالات الأمن وكل ما يتعلق بالدفاع عن المصالح الوطنية وتحقيق الأهداف الوطنية العليا ومواجهة كل أنواع التهديد الداخلية والخارجية، وأن يضم في صفوفه مراكز البحوث والدراسات والتخطيط والتنبؤ السياسي وأن يؤسس ما يجب تأسيسه من هذه المراكز. لم أتلق أي استجابة الأمر الذي دعاني إلي أن أجدد الكتابة في المكان ذاته ب «الأهرام» (5/11/2013) في شكل «نداء إلي السيد الرئيس والفريق أول عبد الفتاح السيسي» أرجو من سيادتهما التدخل ورعاية هذه الفكرة وتبني المشروع والدفع به إلي «لجنة الخمسين». كانت استجابة الرئيس عدلي منصور رائعة وكانت استجابة إحدي الجهات السيادية مشجعة، وبعث الرئيس بالمقترح الذي أرسلته إلي سيادته إلي الأستاذ عمرو موسي رئيس لجنة الخمسين، الذي التقيته وأخبرني أنه حصل علي نص المقترح من السيد الرئيس وأنه حتماً سيكون موضع العناية. ومع الأسف جاء الدستور خالياً من هذا المقترح، بل الأسوأ أنه جاء متضمناً لنص دستور 2012 الذي لا يري في مجلس الأمن القومي إلا مؤسسة لمواجهة الكوارث والأوبئة وليس التخطيط والتنبؤ ورسم السياسات والاستراتيجيات العليا. القضية إذن ليست مجرد مقترحات ورؤي وأفكار، بل الأهم أن تكون الجهات المسئولة مستعدة لتقبل هذه الرؤي والأفكار وأن تكون متقبلة لمشاركة علماء وخبراء في صنع السياسات، وأن تتحول عملية صنع السياسات إلي عمل مؤسسي وليس اجتهادات أشخاص، وهذا هو التحدي الحقيقي الذي نواجهه. لمزيد من مقالات د. محمد السعيد إدريس