"أستطيع أن أغفر للبشر كل شئ إلا الظلم والجحود وإنعدام الإنسانية.."،عبارة قالها الكاتب والفيلسوف الفرنسى "دينيس ديدرو" بعد أن عانى من الهجوم عليه ووصفه بالفوضوى والمخرب، بسبب كتاباته التى أثارت جدلاً كبيراً. وحتى بعد وفاته ظل الصراع قائما بين مؤيديه ومعارضيه حول نقل جثمانه إلى مقبرة "البانتيون" - مقبرة العظماء فى فرنسا . فأنصاره يرون ضرورة دفنه مع الخالدين الذين تركوا بصمة فى الحياة السياسية والثقافية والفنية فى فرنسا، ومعارضوه يرونه مجرد شخص لا هدف له إلا تقسيم البلاد ولكن القدر الذى كان أحد أهم موضوعات ديدرو، عوضه الظلم الذى لاقاه طوال حياته ، فقد ظل فى ذاكرة العالم كأديب مبدع، وخلدت أعماله.. وها هى ذكرى ميلاده محل احتفاء حتى هنا فى مصر، حيث قامت سلسلة آفاق بالهيئة العامة لقصور الثقافة بإصدار طبعة جديدة من روايتة "جاك القدري"، ترجمة وتقديم "حسن عبد الفضيل"،والذى كتب فى تقديمه لها (هذه الرواية تُعد تحفة دينيس ديدرو التى فرضت سطوتها على الأدب والثقافة العالمية منذ ظهورها من شيللر إلى جوته إلى شليجل وستاندال،إلى أدباء القرن العشرين..رواية استشراقية لمغامرات الكتابة والوعى والتجريب الإبداعى لأحد أعمدة عصر التنوير الفرنسي). وتعتبر هذه الترجمة أول ترجمة عربية كاملة ودقيقة التزمت بالنص الأصلى والأسلوب اللغوى لديدرو دون حذف أو إضافة. تدور الرواية حول رحلة يقوم بها بطل الرواية،وهو خادم يدعى "جاك" مع سيده - وإسم "جاك" له مغزى حيث أنه يعنى الفلاح من وجهة نظر أهل المدن والنبلاء،وذلك بعد إندلاع عدة ثورات ريفية سُميت ب "الجاكيات" لأن معظم المشاركين فيها كان إسمهم جاك – وأثناء الرحلة يأمر السيد خادمه أن يحكى له قصص عشقه،ولكن هذه القصص تُقطع بأحداث وشخصيات أخرى تظهر خلال الرواية وقارئ يقاطع الراوى بأسئلة،ويغلب على القصص التى يرويها جاك الطابع الحوارى الفكاهي،بالرغم أن أساس الرواية هو الجانب الرومانسي،ويتبين لنا من خلال أحداث الرواية إيمان جاك بالقضاء والقدر وأن كل مايحدث فى الحياة هو مكتوب مسبقاً،وبسبب ذلك أطلق عليه "دينيس ديدرو" إسم جاك القدري.... .وُلد "دينيس ديدرو" فى 5 اكتوبر 1713 فى بلدة لانجرس بفرنسا فى أسرة متدينة تلتزم بالمعتقدات والقوانين الدينية والأخلاقية،وسار على خطاهم قليلاً،ثم مالبث أن ثار على تلك الحياة ،فقد كان تفكيره دائماً يذهب إلى وجود قوانين أخلاقية يضعها العقل وليس الدين، وكان كتابه "أفكار فلسفية"، والذى هاجم فيه الأديان السماوية والمعتقدات الدينية، هو الذى أطلق شرارة الهجوم عليه. وبسبب ماجاء فيه أصدر البرلمان الفرنسى قراراً بمصادرة الكتاب وحرقه. لكن يبدو أن ذلك جاء فى صالحه حيث زاد من رواجه ورفع عدد القراء، وتمت ترجمته إلى اللغتين الألمانية والإيطالية. ثم كتب ديدرو رواية بعنوان "رسالة عن العميان إلى المبصرين"،ومرة أخرى وبسبب ما جاء فيها من أفكار ضد الدين تم القبض عليه بتهمة الكفر، وفى السجن اعتذرعما كتبه وكتب إقرارا باعتزال هذه الأفكار ووصفها بأنها كانت نزوة على حد تعبيره. وفى عام 1751 بدأ "ديدرو" فى إعداد موسوعة فلسفية تحتوى على 3500 مقال فى مختلف مجالات المعرفة فى القرنين السادس عشر والثامن عشر ، وظل يعمل عليها حتى عام 1772. وقد أبدع كذلك فى كتابة روايات للمسرح مثل "اللقيط" و "رب الأسرة"،وفى النقد الفنى مثل "خطاب فى شعرية الدراما" و "مفارقة حول الممثل"،وفى الأدب الروائى مثل "جاك القدري" و "الراهبة". وبالرغم من كل النقد والهجوم على أعماله وأفكاره من قبل رجال الدين والمتشددين، إلا إنهم كانوا أول المشاركين فى جنازته فى يوليو 1784، واعترف الكثيرون بعد عدة سنوات من رحيله أن "دينيس ديدور" كان أكثر فهماً وإدراكاً لقضايا زمنه.