حمور زيادة" كاتب سوداني صدر له بالقاهرة أخيرًا مجموعة قصصية "النوم عند قدمي الجبل" رواية "شوق الدرويش" التي لها صدى واسع في الساحة الثقافية بمصر، حيث تناولت الثورة المهدية بالسودان، حول تلك الرواية وكتاباته دار هذا الحوار: تناولت في رواية "شوق الدرويش" الثورة المهدية.. هل كان للثورات العربية التي قامت في مصر وتونس وغيرها أثر في ذلك؟ ليس بشكل مباشر، فقد بدأت في الرواية بعد أسابيع من تنحي الرئيس المصري الأسبق "مبارك" وانتصار ثورة 25 يناير، وكان الأفق واعداً، وما كانت التعقيدات اللاحقة قد ظهرت بعد، فبدون تلك التعقيدات لا يمكن مقاربة الثورة المهدية، أو الجانب الذي تلمسه الرواية، بالثورة المصرية أو التونسية، لكن فكرة "فرط الإيمان"، وحرية الإنسان، وتحول المؤمن بفكرة إلى صورة ما يرفضه، كلها أمور في ذهني منذ فترة رأيت أن أنسب تعبير عنها هو ما حدث حقيقة في بلاد السودان في نهاية الفترة المهدية، فمسألة الخلخلة التي تحدثها هزيمة النموذج في النفوس لم ترتبط في الرواية بتعقيدات ثورات الربيع العربي. ما هي مقومات الكتابة التاريخية في الإبداع؟ وهل أي كاتب يمكنه خوضها والنجاح فيها؟ الكتابة التاريخية ككل كتابة إبداعية أخرى تحتاج إلى المعرفة، وللمقدرة على أن تعيش هذه المعرفة، وهي – في نظري – أكثر صعوبة من غيرها، فصعوبة الكتابة التاريخية هي أن عليك نقل القاريء لزمن لم تعشه أنت ولا هو، عليك أن تكون دقيقاً في بناء هذا العالم المختلف زمنياً، وعليك أن تكون مقنعاً للقارئ أن هذا الزمن –الذي لا يعرفه– متسق وصحيح بلا شذوذ فيه أو أخطاء، بالنسبة لي الكتابة عن فترة المهدية قد تكون أسهل من الكتابة عن السودان في الستينيات مثلاً، كلاهما تاريخ، لكني أشد معرفة وإحاطة بزمان المهدية من الستينيات، وبإمكان كل كاتب أن يكتب رواية تاريخية، فحيل الكتابة وأبوابها واسعة ومشروعة، لكن هل سيجيدها ويقنع القارئ ؟ هذه مسألة يتفاوت فيها الكتاب. هل تستعين في كل كتاباتك بالمراجع والكتب العلمية كما فعلت في "شوق الدرويش"؟ أحاول دائماً أن أكون دقيقاً بقدر الإمكان، ولا أميل للمدرسة التي تستسهل "خلق تاريخ موازي" باعتبار الرواية عموماً تخلق واقعاً موازياً، ففي رواية "شوق الدرويش" أرادت شخصية نسائية مصرية أن تغني شيئاً فيه دلال، يوحي أنها واقعة في الغرام، اجتهدت في البحث لأيام لأجد أبيات تؤدي الغرض، وتكون مشهورة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر بمصر، بعد تعب عثرت على أبيات للست ألمظ تقول: "عدي يا المحبوب وتعالى .. وإن م جيتش أجيلك أنا .. وإن كان البحر غويط .. أعملك قلبي سقالة"، وبالنسبة لي ما كان ينفع أن أكتب أي أبيات والسلام، رغم أنها سطر عابر في 460 صفحة، هذه هي النقوش الصغيرة التي يطرز بها الكاتب عمله، طبعاً لا أدعي كمال الأحكام، هناك أشياء تفلت هنا وهناك، أخطاء تقع أو وهم يحدث، لكن المنهج العام الذي ألزمت به نفسي في "شوق الدرويش"، وأحاول أن ألتزم به دوماً في الكتابة هو البحث والاستقصاء، إن البحث والتقصي والاستيثاق لبناء العالم الحقيقي في الرواية أمر مهم، الرواية هي غرفة متخيلة في بيت حقيقي، وداخل الغرفة أثاث بعضه حقيقي وبعضه مختلق، وليس من الجيد أن تفرط في الخيال ولا أن تتوسع في الحقيقة، إنما عليك أن تجعل كل منهما بالمقدار الملائم، إن أفلتت منك المقادير فقدت تصديق القارئ، هذا هو المنهج الذي أتبعه حتى الآن في كتابتي، وأعتقد أني سأستمر عليه. ما تقييمك للأدب السوداني ؟ وكيف ترى الإبداع المصري؟ الأدب السوداني كنز مخبوء، سيستفيد ويتطور إن قرأه الناس خارج السودان، وسينبهر الناس خارج السودان إن قرأوه، هناك عالم كامل، بمواضيعه، بلغته، بصوره لا يعرف عنه قارئ العربية شيئاً يذكر، الطيب صالح، وكاتب أو اثنان غيره بالكثير، هناك اليوم عبد العزيز بركة ساكن، أمير تاج السر، منصور الصويم، عبد الغني كرم الله، رانيا مأمون، وغيرهم كُثر، ولكل منهم عالم يكاد غير مطروق في الرواية العربية المعتادة، إنها الأرض البكر التي لم يمش فيها قاريء العربية من قبل، إنما عرف لمحة منها في أدب الطيب صالح، هذا الأمر بدأ يتغير، هناك موجة من النشر السوداني داخل وخارج السودان، ستساعد الأدب السوداني أن يتطور بالتأكيد؛ فالأدب في السودان – خاصة الروائي – يواجه معوقات عدة، ربما أبرزها أن المزاج السوداني هو مزاج شعري أكثر منه روائي، إضافة لصعوبة النشر، ولحالة العزلة التي تعيشها البلاد. أنت تقيم في مصر منذ سنوات.. كيف يتناول المبدع المهاجر بلده في أعماله وهو بعيد عنها؟ الهجرة والبعد يسمحان لك، ربما يجبرانك، على النظر إلى بلادك وأفكارك وكتابتك بشكل مختلف، البعد –بقدر ألمه النفسي– له أثر إيجابي على الكتابة، حتى بعد أن جربته أصبحت أتساءل: "كيف يكتب من لم يفارق بلاده؟" ، لكن طبعاً هذه ليست قاعدة، أعتقد أن هناك صنفا من البشر يحتاجون للحنين كي يكتبوا، هذا شيء حدث للطيب صالح في شتاء لندن، دفعه الحنين إلى الصحراء التي أتى منها لكتابة أجمل الأعمال في الرواية العربية، لكن هناك صنف مثل نجيب محفوظ يكتبون عن الأشياء وهم في قلبها. لماذا المبدع العربي يلمع نجمه خارج بلاده أكثر؟ لا أظن أنها قاعدة، هناك حالات وحالات، لكن في العموم بلادنا العربية طاحنة، إن لم أقل قاتلة لبنيها، والمبدع غالباً ما يكون متماساً مع الشأن العام، قلة قليلة ونادرة من المبدعين هي التي لا تولي الشأن العام اهتماماً، والشأن العام في دولنا العربية كلها هو قمع وفساد ودكتاتوريات، تكيف الناس مع واقع كهذا يختلف من شخص إلى شخص، وبعض المبدعين قد يتحملون قهر بلادهم لكن بلادهم لا تتحملهم فتلفظهم، عبد الرحمن منيف مثلا لم تتحمله بلاده، بينما تحمل الطاهر وطار بلده. ما هو العمل الإبداعي القادم ل "حمور زيادة"؟ أعد لحكاية جديدة، ستخرج حينما تنضج؛ فالحكاية لها منطقها وزمنها الخاص كما قلت سابقاً.