منذ أربعين عاما بالتمام والكمال استأنفت مصر والولايات المتحدة العلاقات الدبلوماسية بعد انقطاع دام نحو سبع سنوات إثر شن إسرائيل حرب 1967 بدعم أمريكي. وفى عام استئناف العلاقات نفسه (1974) استقبل الرئيس الأسبق السادات فى القاهرة نظيره الأمريكى نيكسون استقبالا أسطوريا أثار الدهشة. وسرعان ما جاءت علاقات التحالف الاستراتيجى مع اتفاقات كامب ديفيد ومعاهدة السلام مع تل أبيب. وعلى عكس الدعاية التى روجت لحلول الرخاء والديمقراطية ،عرف المصريون المزيد من الفقر والقمع . ومنذ تدشين التحالف الاستراتيجى فى النصف الثانى من عقد السبعينيات رسخ السادات وخليفته مبارك أركان الدولة البوليسية والديمقراطية المقيدة المزيفة . وتستحق الترجمة العربية الممتازة الصادرة أخيرا من القاهرة لكتاب جايسون براونلى أستاذ العلوم السياسية الأمريكى عن جناية العلاقات مع واشنطن على الديمقراطية فى مصر القراءة لأسباب عدة، الى جانب مناسبة أربعينية استئناف العلاقات الدبلوماسية الرسمية. فكتاب منع الديمقراطية: سياسات التحالف الاستراتيجى المصرى الأمريكى الصادر بالإنجليزية عام 2012 من مطبعة جامعة كامبريدج العريقة والمترجم الى العربية تحت عنوان إجهاض الديمقراطية: الحصاد المر للعلاقات المصرية الأمريكية فى أربعين عاما ليس مجرد كتاب حديث النشر فى لغته الأصلية . بل إن صفحاته تتتبع موضوع الكتاب الى ثورة 25 يناير 2011 وماتلاها من أحداث فى عهدى المجلس العسكرى ورئاسة مرسى . وهو على هذا النحو كتاب يأتى من عمق التاريخ الى صخب الحاضر و استشراف المستقبل. ويتسلح مؤلف الكتاب بنظرة نقدية تجاه العلاقات المصرية الأمريكية .و يحمل تعاطفا محمودا تجاه الشعب المصرى فى مواجهة حكامه المستبدين وحلفائهم فى المؤسسة الأمريكية الحاكمة . ولا ينعكس هذا التعاطف وحسب فى مطالبته مع ختام الكتاب بالغاء الديون الأمريكية على مصر وتصحيح فلسفة المعونات المقدمة الى القاهرة . بل لا يغيب المواطنون المصريون ومعاناتهم وكفاحهم عن شواغل المؤلف فى أى من فصول الكتاب الخمسة ومقدمته ومقدمة الطبعة العربية، فضلا عن الخاتمة . وتمتد هذه النظرة النقدية الى تشخيصه لحال السياسة الخارجية المصرية ،والتى يرى انها لا تأخذ فى الاعتبار كثيرا بميول واتجاهات الرأى العام للمصريين . وتنهض النظرة النقدية فى الكتاب على اطلاع المؤلف كباحث فى علوم السياسة على المناهج والاسهامات الحديثة فى دراسات العلاقات الدولية والنظم السياسية، وبخاصة علاقات واشنطن مع النظم السلطوية الاستبدادية فى عالم الجنوب. ويستند الكتاب كعمل بحثى جاد الى كم وافر وكيف معتبر من المراجع والمصادر . سواء أكانت رسمية أو غير رسمية . وقد استعان بنحو 270 كتابا وتقريرا باللغة الانجليزية. ومن بينها تقارير صادرة عن الخارجية والخزانة والكونجرس فى واشنطن تحتوى على تفاصيل العلاقات المصرية الأمريكية على مدى أربعة عقود. فضلا عن 11 مرجعا باللغة العربية. كما أجرى المؤلف 29 مقابلة خصيصا من أجل كتابه. وبينها 18 مع مسئولين أمريكيين فى وزارة الخارجية والدفاع (البنتاجون) والأمن القومى وجهات أخرى. وبما فى ذلك ستة سفراء سابقين لواشنطن لدى القاهرة هم: روبرت بليترو وديفيد وولش وفرانك ويزنر ودانييل كيرتز ونيكولاس فيلوتس وفرانسس ريتشاردوني. فضلا عن وزير دفاع أسبق هو هارولد براون . ومن الشخصيات المصادر المصرية (الأحد عشر) التقى جايسون مع وزير الخارجية الأسبق أحمد أبو الغيط . وكذا مع نبيل فهمى وقتما كان سفيرا لمصر فى واشنطن . وقد أمدت هذه المقابلات الخاصة الى جانب التقارير محدودة التداول الكتاب بكنز من المعلومات الطازجة.هى بمثابة أسرار جديدة تضيف الكثير من الجدة والإثارة الى طابع الكتاب العلمى البحثى الرصين . وفى هذا السياق ، يقدم الكتاب معلومات موثقة ومن مصادرها الأمريكية والمصرية قد تحسم الجدل حول قضايا تاريخية من قبيل: هل عرض السادات حقا على الأمريكيين أن يلعب دور شرطيها فى الشرق الأوسط بعدما اطاحت الثورة الإيرانية بالشاة ؟. والعديد من هذه القضايا محل جدل الآن من قبيل حقيقة سعى مبارك إلى توريث الحكم لنجله جمال ومساعيه لتقديمه لدوائر السلطة فى واشنطن ؟ . وماهو حقيقة الدعم الأمريكى للنشطاء المعارضين لحكم مبارك ؟ .وأيضا ما هو حجم وحقيقة الدعم الرسمى الأمريكى لمقومات الدولة البوليسية القمعية فى مصر عتادا وتدريبا؟. والى متى استمر رهان واشنطن على استمرار مبارك فى الحكم ؟.لكن فى كل الحالات توصل الكتاب الى أن واشنطن ظلت على مدى أكثر من أربعين عاما تعطى الأولوية لمصالحها الاستراتيجية ولاعتبارات الأمن على فرص الديمقراطية فى مصر . وتشمل هذه الأولويات والإنحيازات مجالات محددة ومستقرة هى الحفاظ على أمن إسرائيل ونفط الخليج وحكامه و الحرب ضد الإرهاب والأصولية الإسلامية، فضلا عن إقامة علاقات وثيقة ومستقرة مع المؤسسة العسكرية . وفى كل الأحوال كشف الكتاب عن خشية الرؤساء فى البيت الأبيض ومن خلفهم المؤسسة الأمريكية من احتمال قيام حكم له توجهاته الشعبية فى القاهرة. وتتناول فصول الكتاب الخمسة إشكالية الديمقراطية والعلاقات المصرية الأمريكية على نحو تتبعى زمنيا . فالفصل الأول السلام قبل الحرية يتناول مرحلة السادات . ويأتى الفصل الثانى تحت عنوان حرب مبارك على الإرهاب ليغطى حكم مبارك الى نهاية عقد التسعينيات . وتحت عنوان معضلة الخلافية السياسية يعالج السنوات مابين الظهور السياسى لجمال مبارك فى عام 1999 الى منتصف العقد الأول من الألفية . وفى الفصل الرابع مراقبة غزة يناقش ثلاث سنوات حتى نهاية عام 2008 كانت حافلة بالاضطراب وتنامى المعارضة الداخلية فى مصر وتحديات ما بعد الانسحاب الاسرائيلى من غزة 2005وفوز حماس بانتخابات 2006. وجاء الفصل الخامس طوفان الغضب ليرصد ويحلل مسار العلاقات بين واشنطنوالقاهرة على وقع العامين السابقين على اندلاع ثورة 25 يناير .ثم خلال مجريات الثورة ذاتها . ويستحق الكتاب القراءة لسبب آخر وليس أخيرا نظرا لدقة وأمانة الترجمة الى اللغة العربية .وكذا للفهم الواعى للنص المكتوب باللغة الإنجليزية ولموضوع النص ذاته . ويستأهل الجهد الكبير الذى بذله مترجمه الكاتب الصحفى أحمد زكى عثمان الإشادة . وبخاصة لأنه استطاع ان يصل بالقارئ الى المعانى بسلاسة ووضوح ، فيما احتفظ للكتاب بطابعه البحثى . ولم يجرده من الهوامش الداخلية أو من قوائم المراجع والمصادر الوفيرة الغنية . وفى كل الأحوال كان عليه ان يعود الى مصادر الكتاب الأصلية باللغة العربية ،وكلما تطلب الأمر . وبحق تقدم ترجمة هذا الكتاب بدقة وسلاسة وامتاع قضية اجهاض الديمقراطية فى مصر بوصفها حكاية أمريكية .
الكتاب : إجهاض الديمقراطية : الحصاد المر للعلاقات المصرية الأمريكية فى أربعين عاما . المؤلف: جايسون براونلى . المترجم : أحمد زكى عثمان. الناشر : دار الثقافة الجديدة. الصفحات: 273.