رغم توقع البنك الدولى مطلع العام الجارى بدء تعافى الأسواق العالمية من تأثيرات الأزمة المالية فى 2008، والتى بلغت حد تهديد دول بالإفلاس، فإنه عاد ليخفض توقعاته للنمو العالمى من 3٫7% إلى 3٫2% يناير الماضي، ثم إلى 2٫8% فى يونيو بسبب "حرب الاستنزاف" العالمية بين موسكو والغرب نتيجة للعقوبات المتبادلة بينهما على خلفية الأزمة الأوكرانية. وجاءت التهديدات الأخيرة بين الطرفين بفرض المزيد من العقوبات مع إمكانية النظر فى إرجاء تنفيذها، ليعكس مدى ما بات يمثله نزيف الأسواق من خطر بالغ على كليهما، بل وعلى الاقتصاد العالمى ككل، وهو نفسه ما سبق وحذر منه الرئيس الروسى فلاديمير بوتين عقب انتهاء محادثاته مع نظيره الفنلندى فى منتصف أغسطس الماضى فى سوتشي، عندما قال: «العقوبات الغربية المفروضة ضد روسيا لها تأثير سلبى على الاقتصاد العالمي». ووفقا لموقع «إي. يو. أوبزرفر» الخاص بشئون الاتحاد الأوروبي، فإن عقوبات العام الحالى على روسيا ستحرم الاتحاد الأوروبى من 40 مليار يورو من اجمالى التبادل التجارى السنوى مع روسيا، قد ترتفع إلى 50 مليار يورو العام المقبل ، حيث بلغ حجم التبادل التجارى بين الطرفين نحو 336 مليار يورو، أى حوالى 451 مليار دولار العام الماضي، لا سيما وأن روسيا هى الشريك التجارى رقم 3 بالنسبة لمجموع دول الاتحاد الأوروبي. على الجانب الآخر، فمن المرجح أن يكون تأثير العقوبات أشد على روسيا التى يتوقع أن تدخل مرحلة انكماش اقتصادي، مع خسارة من 1٫5% إلى 4٫8% من ناتجها المحلى الإجمالي، كأحد تداعيات حركة هروب الاستثمارات الغربية، والتى أعلن أليكسى أوليوكاييف وزير الاقتصاد الروسى أن خسارة بلاده قد تصل إلى 100 مليار دولار هذه العام من إجمالى 170 مليار دولار، مما سيتسبب فى تراجع نمو إجمالى الناتج الداخلى إلى 0٫6%، بما يعنى انخفاض وتيرة النمو الاقتصادى إلى النصف تقريبا، وهو ما أكده صندوق النقد الدولى الذى توقع أن يسجل معدل النمو فى روسيا العام الحالى 0٫2% فقط، لا سيما فى ظل انخفاض معدل نمو الاقتصاد الروسى فى العام الماضى 2013 إلى 1٫3%، ناهيك عن حكم محكمة التحكيم الدولية فى لاهاى فى يوليو الماضى بضرورة ان تسدد روسيا 50 مليار دولار إلى المساهمين فى شركة البترول «يوكوس» التى تم تأميمها «بدوافع سياسية» حسب المحكمة، ومنحت روسيا مهلة حتى منتصف يناير المقبل لتدفع التعويضات، وإلا فمن الممكن مصادرة ممتلكاتها فى الخارج. هكذا كشفت أزمة شرق أوكرانيا عن استمرارية تحكم «نظرية الخوف» فى طبيعة العلاقة ما بين الطرفين رغم قناعتهما التامة بأن ما يجمعهما من مصالح أكثر مما يفرقهما. فأوكرانيا لا تمثل فى حد ذاتها مصلحة حيوية مهمة للغرب بقدر الحفاظ على المسافة بينها وبين روسيا فقط، فيما تنظر موسكو لمنطقة «الأوراس» على كونها جزءا لا يتجزأ من أمنها القومي، حيث يدرك بوتين تماما معنى نيل أوكرانيا عضوية الاتحاد الأوروبي، ومن ثم عضوية حلف “الناتو” بالتبعية، ما يعنى خللا فى توازن القوى الهش مع الغرب، وبالتالى ستكون روسيا هى الخاسرة، ولذلك جاء قيامه بخطوة ضم القرم فى مارس الماضى فى خرق لسياسة الحصار الأوروبية، وإعلانه أمام الكرملين: «علينا أن نقرر اليوم ما إذا كنا مستعدين للدفاع عن مصالحنا الوطنية أو أننا سنفرط فيها إلى الأبد»؟، وهو ما بات أكثر ما يقلق الغرب، حيث العجز أمام قوة الرد العسكرية الروسية، وبالتالى خشية انفتاح شهية الدب على التهام المزيد من الأرض، أو كما عبر عن الأمر السيناتور الأمريكى عن الحزب الجمهورى جون ماكين بالقول :«بوتين كلما تناول الطعام .. ازداد نهما»، فى إشارة إلى ضم القرم. وعليه، تبدو إشكالية الأزمة الحالية ما بين روسيا الغرب فى ظل صعوبة ادعاء أى طرف منهما تحقيق الفوز، هى تلك المحصورة فى الجواب على السؤال المطروح : «من يتراجع أولا»؟ هل يتراجع الغرب عن مخطط حصار موسكو عبر تطويقها بمجموعة من الدول الموالية له وتطبيق سياسة الانفتاح معها مجددا تجنبا لخسائره الاقتصادية؟ أم تتراجع روسيا أمام وطأة العقوبات المتبادلة، وما يعنيه هذا من تهديد لأمنها القومي، من ثم التفريط إلى الأبد فى حلم استعادة المكانة والدور من خلال تشكيل «الحلف الأوراسي»، مع احتفاظها بعلاقاتها المتوازنة مع الغرب؟ أم يطرح استمرار حالة التصعيد بينهما الوصول إلى «نقطة اللا عودة»؟ بحسب وصف خوسيه مانويل باروشو رئيس المفوضية الأوروبية المنتهية ولايته فى تصريحاته لصحيفة «لوفيجارو» الفرنسية عقب لقائه مع الرئيس الأوكرانى بيترو بوروشينكو مطلع الشهر الحالى؟ أم الوصول إلى السيناريو البعيد، حيث بدأ النظر خارج حدود الدائرة المغلقة التى ظل يفرضها السؤال : «من الفائز ومن المهزوم» عبر سنوات الحرب الباردة وما بعدها، لا سيما فى ظل تهديدات خطر تمدد الميليشيات المسلحة التى طالت كليهما، ومن ثم اتساع رقعة الحرب على الإرهاب يوما بعد آخر فى مواجهة دولية أخرى مفتوحة دون حسم حتى الآن؟