نحن أمام خريطة إنتخابية من المتوقع أن تفرز أحد شكلين لأول مجلس نيابى فى مصر الجمهورية الثالثة، هو الأخطر والأهم فى تاريخ البرلمانات الجمهورية المصرية برلمان متعدد الهوية ومتنوع المرجعيات والتوجهات التى تختلف أولوياتها وتتباين لديها الرؤى، أو برلمان يغلب على تشكيلة «الحرس القديم» من محترفى الحياة البرلمانية والسياسية عموماً، وبصفة خاصة أولئك الذين يحملون على أكتافهم سجلاً مشرفاً فى ذاك المجال المنزهين عن الفساد ولم يتورطوا فى ممارسات الإفساد. وفى جميع الأحوال نحن أمام مجلس نيابى يحظى بنوع من التفرد ويواجه تحديات غير مسبوقة. أهمها ، برلمان الجمهورية الثالثة الأول الذى أفرزه دستور جديد لمصر وعليه تنعقد مسئولية المشاركة التشريعية فى وضع وصياغة رؤية وأهداف إستراتيجية شاملة ومتكاملة تصب فى طموحات المصريين وتحقق لهم العزة والكرامة والريادة فى إطار حكم رشيد. برلمان يؤكد «مدنية» الدولة ويخلو من التمثيل على أساس دينى، أو عرقى أو طائفى، بإستثناء حالات التمييز الإيجابى المرحلى لفئات معينة طال تهميشها. أول برلمان مصرى منذ مجلس شورى النواب سنة 1866، يفسح فرصاً أوسع للمستقلين وللمرأة والأقباط وذوى الإحتياجات الخاصة. وأول برلمان مصرى منذ قيام النظام الجمهورى لا يراعى فى تشكيله الإلتزام بنسبة النصف «الخادعة» للعمال والفلاحين. وهو البرلمان الأكثر عضوية فى تاريخ المجالس التشريعية المصرية، إذ يضم 567 عضواً، الأمر الذى من شأنه أن يفرز سلبيات فى مقدمتها إطالة الوقت الذى تستغرقه المناقشات مما يبطىء إيقاع المجلس فى اتخاذ القرارات، وقد يشكل عائقاً أمام إقرارها فى الوقت المناسب أو اعتمادها من الأساس، إما لعدم توفير نصاب صحة الإنعقاد أو لصعوبة تحقيق نسبة التصويت المطلوبة، وتتضاعف المشكلة بقدر تعلق الأمر باستلزام الحصول على أغلبية خاصة، الثلثين مثلاً، فى المسائل الجوهرية التى تتطلب ذلك. وفى هذا السياق، تشكل التحالفات والإئتلافات داخل المجلس كتلة تصويتية يمكن أن تعمق السلبيات الموصوفة أو تقلل منها بحسب توجهات التحالف أو الإئتلاف المساند أو المعارض للسلطة الحاكمة، أو بحسب نوع المسألة المعروضة ودرجة توافق الكتلة حولها. على خلاف المجالس التشريعية التى شهدتها الجمهوريتان الأولى والثانية، أعطى دستور 2014 صلاحيات غير مسبوقة لمجلس النواب إستهدفت إحداث توازن خلاق بين السلطات فى إطار نظام حكم مختلط «رئاسى / برلمانى»، بما فى ذلك، وعلى الأخص، الموافقة على الحكومة التى يشكلها رئيس الجمهورية، وفى حالة عدم حصولها على ثقة أغلبية أعضاء المجلس يتولى تشكيلها، بنسبة الأغلبية ذاتها، الحزب، أو الإئتلاف، الحاصل على أكثرية مقاعد البرلمان. ويجوز للمجلس، بأغلبية أعضائه، سحب الثقة من الحكومة، كما يجوز له، بموافقة أغلبية ثلثى أعضائه، توجيه إتهام لرئيس الجمهورية بإنتهاك أحكام الدستور أو بالخيانة العظمى، أو سحب الثقة منه. ويجوز لرئيس الجمهورية إعفاء الحكومة بأغلبية أعضاء المجلس، أو تعديلها بالأغلبية المطلقة للحاضرين. وذلك كله تفعيلاً لمبادئ حاكمة فى مقدمتها السيادة للشعب والفصل بين السلطات وقواعد الحكم الرشيد. لأول مرة يشترط دستور 2014 حصول المرشح لعضوية مجلس النواب على شهادة إتمام التعليم الأساسى على الأقل، وألا تقل سنه عند الترشح عن خمس وعشرين سنة، الأمر الذى يتيح فرصاً أكبر أمام الشباب ويدفع بدماء جديدة فى شرايين الحياة البرلمانية. وهو برلمان سوف يواجه حالة مصرية غير مسبوقة من التراجع فى المجالات كافة فى مقدمتها الأمن والإقتصاد والعدل الإجتماعى. تلك حالة غاصت فى مستنقع التردى خلال عام من حكم جماعة إرهابية متأسلمة رأت نفسها فى «ثأر» مع مصر، الوطن والشعب والأرض، فخطفت الوطن وفرطت فى الأرض وروعت الشعب وإغتالته وتنكرت لهويته وداست تراثه وأحرقت موروثاته وشوهت ثقافته وإستهانت بمؤسساتها وناصبتها العداء، وأردت مصر منهكة تكاد تتهاوى.. السؤال المطروح بإلحاح على البرلمانيين المصريين ماذا أعددتم لمواجهة المؤامرة الكبرى التى إستهدفت مصر والتى فرضت عليها حرباً متعددة الأبعاد اقتصادياً ودبلوماسياً وإعلامياً وأمنياً وظفت فيها كل الأدوات وجندت المرتزقة ومحترفى الإرهاب والاتجار بالدين فى الداخل وعبر الحدود شرقاً وغرباً وجنوباً ؟ مصر تخوض حرباً تمارسها ميليشات مسلحة للجماعة الإرهابية المتأسلمة مدعومة من جهات عربية وإقليمية ودولية فى عداء مع هذا البلد وأهله، يخطط فيها كل من العميل والأصيل لمشروعه الخاص على حطام شرق أوسط جديد يتقزم فيه دور مصر ويجرى تفتيت وتقسيم دول عربية مثل العراق وسوريا وليبيا واليمن والسودان والصومال إلى دويلات وكيانات يسهل تطويعها وإبتلاعها .. فضلاً عن إستهداف الدول العربية المساندة لمصر والداعمة لشعبها فى مقدمتها المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة ودولة الكويت ومملكة البحرين. نريد برلمانين مستنيرين غير منغلقين على فكر أو يدعون إحتكار الحقيقة المطلقة؛ يدركون القضايا والمخاطر التى تتهددنا من الداخل، وتلك التى تطوقنا وتحيط بنا من الخارج، ويستوعبون أبعاد ذلك كله على الأمن القومى المصرى والعربى بمفهومه الشامل وعلى مسيرة بناء مصر الجديدة .. ونريدهم غير مزايدين أو متخاذلين، يمتلكون رؤية وأجندة مصرية خالصة منزهة عن الهوى والإنتماء والولاء لغير الوطن والأمة، مع صلابة إرادة المواجهة والإنتصار على تلك التحديات والتهديدات التى تمثل الفارق بين أن نكون أو لا نكون . تبقى الإشارة إلى مسألة جوهرية وهى أن التجربة المصرية مع التعددية الحزبية منذ قيام النظام الجمهورى وحتى اليوم لم تولد إلا وهماً بها وظناً خادعاً وفى غير محله. إن التعددية الحقيقية الفاعلة تمثل، فى تقديرنا، محطة الوصول إلى «المحصلة النموذج» التى تتخلق بالتجربة والخطأ تدريجياً على مدى تاريخ من الإنقسامات والمنافسات والغربلة الذاتية لنخلص فى النهاية إلى «الصيغة» الأكثر ملاءمة لخصائص المجتمع والمتناغمة مع واقعه وتجاربه والأفضل لتلبية طموحاته والأقدر على التطوير والإستمرارية والبقاء بعيداً عن إقتباس نموذج ومحاولة إستزراعه فى غير تربته .. ومن هنا وجب التمهل والأخذ بالتدرج وتقييم الممارسات بدون إدعاء أو توهم أن لدينا تعددية حقيقية يمكن التعويل عليها فى تحقيق توازن مبدع ومؤثر بين أداء السلطة وتطلعات الجماهير .. وأحسب أن الأحزاب الورقية سوف تتساقط لا محالة ويخلص النموذج فى نهاية المحصلة إلى عدد لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة هى الأقدر على تحقيق التوازن وتداول السلطة وترشيد النظام. لمزيد من مقالات د.عبد الحافظ الكردى