ليست هذه المرة الأولي التي أكتب فيها عن هذا الموضوع. ومع ذلك فيبدو أن الفكرة مازالت مطروحة ومحل بحث لدي بعض الأوساط لذلك رأيت أنه قد يكون من المجدي إعادة الحديث في هذه القضية. ونبدأ بعرض جوهر الفكرة المطروحة. فرسوم المرور في قناة السويس تدفع حاليا بالعملات الاجنبية( الدولار/ حقوق السحب الخاصة) فخدمات القناة هي نوع من صادرات الخدمات تؤدي لغير المقيمين, وبالتالي تسوي قيمتها بالعملات الاجنبية أسوة بباقي الصادرات. ويمثل دخل قناة السويس أحد أهم مصادر العملة الاجنبية للاقتصاد المصري, وهو فضلا عن ذلك دخل لخزانة الدولة مباشرة وقد استمر التزايد في حصيلة هذا المورد بشكل معقول خلال فترة الثورة, وكان من أهم عناصر استقرار الاقتصاد الوطني في وقت تعرضنا فيه لضغوط متزايدة خلال هذه الفترة العصيبة. والسؤال, لماذا الدعوة إلي تحصيل هذه الرسوم بالجنيه المصري بدلا من العملات الأجنبية؟ فهل هناك مبررات اقتصادية لذلك؟ هذا هو السؤال الذي احاول أن أناقشه في هذا المقال. تقوم الحجة الاقتصادية الأساسية لتبرير هذه الدعوة علي اعتقاد أن فرض دفع رسوم المرور في القناة بالجنيه بدلا من العملات الاجنبية, سوف يؤدي إلي الزيادة في طلب الاجانب علي الجنيه المصري لسداد رسوم المرور, وأنه من شأن هذه الزيادة في الطلب أن ترفع قيمة الجنيه المصري في أسواق الصرف. وبذلك يتحسن وضع الجنيه نتيجة لزيادة الطلب عليه من الخارج هذه هي الحجة الاقتصادية الأساسية, وربما يدعمها حجج أخري عاطفية مثل التعامل بالعملة الوطنية وزيادة كرامة الجنيه وسوف أقتصر علي مناقشة الحجة الاقتصادية. فهل صحيح أن دفع رسوم المرور في القناة يساعد علي تحسين قيمة الجنيه المصري في أسواق الصرف؟ للأسف لا. فالوضع الإجمالي لطلب وعرض العملات الأجنبية سيظل علي ما هو, وإن أدي ذلك من الناحية العملية إلي نقص موارد الدولة من العملات الاجنبية مقابل زيادة موارد القطاع الخاص منها. فالعملية في نهاية الامر أشبه بخصخصة موارد العملة الاجنبية من الدولة لصالح القطاع الخاص, فالأمر لن يزيد عن إعادة توزيع موارد العملة الاجنبية بين الدولة والقطاع الخاص. كيف؟ في الوقت القائم حاليا, تقوم السفن العابرة في القناة بدفع رسوم المرور بالعملة الاجنبية لهيئة قناة السويس المملوكة كلية للدولة وبذلك تدخل حصيلة هذه العملة الأجنبية مباشرة خزينة الدولة والهيئات العامة, لكي تستخدم هذه الموارد بعد ذلك في سداد التزامات الدولة بالعملات الاجنبية, سواء بدفع فاتورة واردات السلع التموينية الرئيسية أو سداد التزامات الدولة عن القروض القائمة. فماذا يحدث عند الانتقال للنظام الجديد بالدفع بالجنيه المصري؟ المفروض أن معظم السفن العابرة إن لم يكن كلها سفن أجنبية وليست مصرية. وبذلك فإن أصحابها ليست لهم مصادر مباشرة للحصول علي الجنيه المصري. وتصبح الوسيلة المتاحة أمامهم للحصول علي الجنيه المصري هي أن يتم شراؤه من السوق المحلية في مصر سواء من مكاتب الصرافة أو البنوك أو حتي الأفراد أو الشركات الخاصة. وهكذا, فإن الأمر بالنسبة للسفن العابرة لن يتغير. فهي تدفع دائما رسوم المرور من دخلها بالعملة الاجنبية, وذلك إما بدفعه مباشرة لهيئة قناة السويس إذا كانت العملات الاجنبية مقبولة, وإما بشراء الجنيه المصري من الاسواق المحلية لدفعه لهيئة قناة السويس. وهكذا, فإن الانتقال من دفع الرسوم بالعملة الاجنبية الي الجنيه المصري لم يغير شيئا في حجم ما يدخل البلاد من عملات أجنبية في أول الأمر كانت العملات الاجنبية تقدم مباشرة للدولة من خلال هيئة قناة السويس, وفي الحالة الثانية تقدم هذه العملات للأسواق المحلية للحصول علي الجنيه المصري. وهكذا, فإن العملية كلها لاتؤدي إلي زيادة في الطلب الإجمالي علي الجنيه, وإنما هي فقط إعادة توزيع العملات الأجنبية القادمة لمصر بزيادة نصيب القطاع الخاص منها, وحرمان الدولة منها فالعبء علي الشركات الاجنبية لم يتغير. فهي تدفع نفس القيمة بالعملات الاجنبية, إما بتقديمها مباشرة لهيئة قناة السويس, وبالتالي تدخل خزانة الدولة, وإما بأن تقوم هذه الشركات بشراء الجنيه المصري من مكاتب الصيارفة والبنوك والافراد و الشركات. فالتكلفة علي مستخدمي القناة من العملات الأجنبية لم تتغير وما يدفع منها للاقتصاد المصري في مجموعه لم يتغير. وكل ماتغير هو أن المستفيد من حصيلة عبور القناة بالعملة الاجنبية قد انتقل من خزانة الدولة إلي جيوب القطاع الخاص الذي سوف يبيعه بعد ذلك غالبا للدولة مقابل عمولة, فالعملية هي نوع خصخصة موارد العبور في قناة السويس بالعملات الأجنبية لمصلحة القطاع الخاص, فالقناة, وهي ملك للمصريين جميعا, قادرة علي كسب عملات أجنبية مقابل خدماتها, بمعني أنها أحد اهم مصادر العملة الاجنبية للدولة فإذا بها تتحول عند تنفيذ الاقتراح لتصبح مجرد شركة تبيع خدماتها بالجنيه المصري كشركة بيع المصنوعات المصرية مثلا. قد يقال وما المانع, فالعملات الاجنبية سوف تكون للمصريين سواء للدولة أو قطاع خاص! ولكن علينا أن نتذكر أن الحكومة المصرية قد أخذت علي عاتقها استيراد العديد من السلع الاستراتيجية لمصلحة المواطن المصري. فالدولة تستورد الدقيق والقمح والسكر والعديد من المواد التموينية من الخارج, كذلك تستورد الدولة عددا من المواد البترولية والتي تبيعها للجمهور بأسعار مدعمة. فمن أين تجد الدولة العملة الأجنبية لشراء هذه الواردات؟ عليها في مثل هذه الحالة الاتجاه الي الصيارفة والبنوك والتي حصلت علي العملات الاجنبية من السفن العابرة. وسوف تجد هذه المؤسسات الفرصة لإعادة بيع ما اشترته من عملات من السفن العابرة للحكومة, ولكن بعد تحصيل عمولة. وبذلك تعود العملات الاجنبية, والتي دخلت البلاد بمناسبة العبور في قناة السويس, إلي خزانة الدولة مرة أخري, ولكن بأسعار أعلي لدفع عمولة الوسطاء الذين باعوا الجنيه المصري للسفن العابرة في القناة, وهكذا سوف تستخدم في الغالب حصيلة رسوم العبور في قناة السويس لجلب واردات الحكومة من السلع التموينية, ولكن بتكلفة أعلي علي الدولة وذلك لتحقيق مكاسب لشركات الصرافة والبنوك وربما العديد من الشركات الاخري والتي حصلت علي العملة الاجنبية من السفن العابرة في القناة, فهل هذا أمر مفيد؟ كلا, بل أن هناك ما هو أخطر. فمن أخطر ما تتعرض له الدول هو هروب الثروات المحلية منها. وفي هذه المرحلة الدقيقة من عدم استقرار الأوضاع, فإن مخاطر هروب الثروات سيكون أشد وقعا. ولكن كيف يتم تهريب الثروات؟ الثروة بطبيعتها وطنية متجذرة في الأرض. فالثروة العقارية من أراض أو مصانع لاتنتقل من مكانها, وحتي العملة المحلية فإنها في الأصل لاتتداول خارج البلد. ولكن الثروة تهرب إذا وجدت طرفا آخر في الخارج راغبا في تقديم أموال من الخارج بالعملات الأجنبية مقابل الحصول علي أصول محلية, ولذلك فإن عمليات التهريب ترتبط عادة بعمليات تصدير لا تسترد حصيلتها بالكامل ويقيد الفارق في القيمة في البنوك الأجنبية لحساب المصدر, أو بعمليات استيراد يدفع فيها أكثر من قيمتها الحقيقية, أو بالتنازل عن أصول في الداخل من أملاك وأموال وتدفع قيمتها في الخارج لحساب البائع. وإذا كان دخل القناة يصل الي أكثر من خمسة مليارات دولار في السنة أي أكثر من ثلاثين مليار جنيه مصري, فإذا طلب في هذه اللحظة من السفن العابرة أن تدفع هذه الرسوم بالجنيه المصري, فإن هذه السفن ستكون في حاجة إلي شراء ثلاثين مليار جنيه مصري سنويا يدفع مقابلها بالعملات الاجنبية ومعني ذلك أن السفن العابرة للقناة ستكون علي استعداد لعرض أكثر من خمسة مليارات دولار سنويا للمصريين مقابل حصولها علي المعادل بالجنيه المصري. أليست هذه فرصة هائلة لتهريب الأموال وبيع الجنيه المصري للسفن العابرة و تحصيل مقابلها في الخارج! وأخيرا ومن الناحية العملية البحت أليس من المصلحة عند تحديد ثمن أية سلعة أن يتمتع هذا الثمن بقدر من الاستقرار؟ ومن المعروف أن قيمة الجنيه المصري معرضة للتقلبات بشكل أكبر من معظم العملات الأجنبيه( خاصة سلة العملات مثل حقوق السحب الخاصة) فهل من المناسب أن نحدد رسوم القناة بالجنيه المصري المعرض للتقلبات ونعيد إعادة التسعير كلما انخفض سعر هذا الجنيه؟ أليس هذا نوعا من سوء إدارة السياسة التسويقية لخدمة المرور في القناة؟ ذلك إن استقرار الرسوم نسبيا أمر مفيد لمصلحة المستخدمين للقناة. وهكذا يتضح أن دفع رسوم المرور بالقناة بالجنيه المصري لن يترتب عليه أي تحسين في قيمة هذا الجنيه, لأن العرض الكلي للعملات الأجنبية لن يزيد, فقد يزيد المعروض منها علي القطاع الخاص, ولكن وبنفس القدر سيتقلص ما يعرض لمصلحة الحكومة والمتمثلة في هيئة قناة السويس كذلك غالبا ماسيؤدي هذا الأسلوب إلي ارتفاع تكلفة حصول الحكومة علي العملات الأجنبية لاستيراد المواد التموينية والسلع الاستراتيجية. وأخيرا سوف يسهل هذا الإجراء من عمليات تهريب الثروات للخارج, فضلا عما سوف يصاحبه من عدم استقرار في أسعار الرسوم المفروضة مع كل انخفاض في قيمة الجنيه المصري. الفكرة في مجموعها ساذجة اقتصاديا و غالبا ضارة سياسيا أيضا.. والله أعلم. المزيد من مقالات د.حازم الببلاوي