عندما كانت تحدث السرقات في القرية قديما وربما إلي اليوم تكون الحكومة هي آخر من يفكر المسروق في إبلاغه عما سرق منه, اللهم إلا أن يكون الحادث كبيرا, كأن تتعرض زريبة بأكملها للسرقة, أو دكان مانيفاتورة كبير, أو حتي دكان بقالة. أما سرقات البيوت, فإن المسروق يتوجه في الحال إلي أحد المعروفين قبل أن يهتم بإبلاغ العمدة. وحتي المنكوبين بسرقات كبري يهرعون إلي الحكومة ويهرعون في نفس الآن إلي العراف. ذلك أن اعتقاد المصريين في قدرة العراف ثقافة شعبية متوارثة منذ آلاف السنين مما يشي بمصداقية واضحة لم تزعزعها اختلافات العصور المتواترة ولا ما دخل البلاد من ثقافات حديثة وافدة أو مكتسبة!. والعرافون درجات, أو طبقات, تتحدد طبقة الواحد منهم بمدي قدرته علي النفاذ إلي تفاصيل حالة السرقة واستكناه المعلومات وتحليلها للعثور علي مفاتيح يتوصل بها إلي السارق, سواء كان من محيط العائلة أو من خارجها; وكذلك بمدي نفوذه علي طائفة الجن الذين سيستخدمهم في فك طلاسم القضية. احد أبناء عمومتي كان واحدا من أولئك العرافين. وكنت في طفولتي منجذبا إلي قعدته ذات الطقوس الاحتفالية المبهجة, المرعبة أحيانا, الحافلة بمفاجآت مثيرة, وخيمة من دخان البخور الطيب الرائحة, ورقي وتعاويذ يلقيها العراف في مشهد مسرحي بكل معني الكلمة أين منه لورنس أوليفييه في دور هاملت شيكسبير, وجه يتلون بانفعالات حادة, وجسم ينتفض, لايني يلقي بالبخور في متقد النار هاتفا يستنهض خدمه من الجن يناديهم بأسمائهم في أمر مبطن بحميمية غاضبة. والناس من حواليه في القاعة صامتون يترقبون; قلوبهم تخفق في وجوههم في رهبة تقارب الشعور بالذنب, وفي فضول يقارب الشعور بالتحدي اللذيذ في محاولة اختراق حجب الغيب علي يدي بشري مثلهم ولكن عبر وسيط من الجن. ولم تكن قعدة قريبي العراف هي وحدها المثيرة لخيالي, إنما كتبه الصفراء العتيقة تفوح صفحاتها برائحة مياه الوضوء ممزوجة بزخم البخور وبصمات الأصابع الملطوشة بدسم الطعام; لهفي علي كتاب شمس المعارف الكبري وما يحتويه من وصفات سحرية لجميع أغراض الحياة بجميع أنواعها خيرا وشرا علي السواء. ولكن كيف سيعرف العراف من هو السارق أو القاتل أو صاحب الفتنة فيما نشب من عراك دموي في البلد؟ لسوف يفتح المندل.. وكلمة الصندل علي وزن كلمة المندب, وكلمة المنبع وربما كانت هذه الكلمة الأخيرة هي الأقرب لتفسير معني كلمة: المندل; ذلك أن المندل تعني إجراءا طقسيا تنبع منه الدلائل التي يمكن أن ترشدنا إلي الفاعل, أو الجاني. وهناك أشكال متعددة لهذا الإجراء الطقسي السحري المسمي بالمندل. كل شكل يمثل طريقة استدلال. وكل جريمة سرقة أو قتل أو حرق أو تقليع زرع أو خطف رهائن لها ما يناسبها من هذه الطرائق. فهناك مندل الفنجان, و مندل طبق الكريات الطينية, و مندل القلة الفخارية المتحركة. وقد أتيح لي في طفولتي المبكرة أن أشهد كل هذه الطرائق, وأن أكون وسيطا طفوليا في بعضها. فانطبع في وجداني هذا العالم السحري باعتباره عالما فنيا محضا, بالدرجة الأولي والأخيرة. ذلك أن كل طقس من الطقوس بشكل عام هو فن بصورة أو بأخري منذ عصور ما قبل التاريخ حينما كان الإنسان البدائي يقيم الشعائر والطقوس لاسترضاء القوي الكونية المتحكمة في حياته وفي مصيره. وحينما تجلت العقائد الدينية في حياة الإنسان وثقفت وجدانه نضجت هذه الحركات الطقسية وتحددت معانيها في صلوات وعبادات, ثم في فنون التمثيل والرقص والغناء والموسيقي; فاكتسبت قدسية ومهابة وجلالا; فاستفاد من ذلك العرافون والسحرة, اعتمدوا علي غريزة حب الناس وإجلالهم لكل ما هو طقسي; اعتمدوا كذلك علي خصوبة خيالهم في توصيف الوصفات السحرية بحيث تبدو كل وصفة كأنها عمل فني منسوج من صور سوريالية حوثية. أكاد أجزم أن العرافين أو السحرة أنفسهم علي قناعة بأن أعمالهم السحرية هذه ليست بقادرة علي اختراق الغيب لمعرفة الفاعل أو الجاني الخفي, وأن استخدامهم للجن أمر بالغ الاستحالة, إنما هم علي قناعة داخلية بأن المسرحية في حد ذاتها, اللعبة الطقسية بإجراءاتها الكثيرة هي في الواقع صاحبة السر الباتع في الكشف عن الجناة. ولهذا يبالغون في ردها وتشخيصها بجدية وبأكبر قدر لديهم من ملكة التفنن إن هدفهم الحقيقي هو إتقان اللعبة,. فبهذا الإتقان وحده يحدث الضغط النفسي علي نفسيات الجناة فيتوترون وتضطرب سلوكاتهم وتتعطل أذهانهم وترتبك أحوالهم فتقع منهم كلمات أو تصدر عنهم أفعال تشي بتورطهم. وكلما كان العراف حسن السمعة قادرا علي إثارة الرهبة شكل ضغطا علي نفوس الجناة الذين ربما كانوا من بين الحضور في قعدة العراف فيسرع الجناة بالتخلص من أثر الجريمة فيكشف أمرهم. إذا كانت السريقة ماشية أو محاصيل, من الزريبة أو من مخزن خارج الدار, يكون مندل الفنجان هو الأنسب. وبادئ ذي بدء ليس من المستحب وجود أكثر من عراف في نفس الجلسة كما يحدث أحيانا لدي الأسر الميسورة حيث تستدعي أكثر من عراف من أكثر من بلد إضافة إلي عراف البلد; مع أنهم يعتقدون ما يعتقده الناس من أن وجود أكثر من عراف في جلسة واحدة يشوشر عليهم جميعا; فكل عراف سيترصد شغل الآخر ويقرأ في سره من التعاويذ والآيات القرآنية والأحاديث النبوية ما يبطل به سحر منافسه. في ليلة من ليالي الفنجان في بلدتنا تسللت بين الأطفال إلي مندرة العائلة التي سرقت مواشيها لكي تنفرج علي ما يحدث أمامنا من أعمال سحرية. لم يكن قريبي هو عراف تلك الليلة ولم يكن حاضرا, وحينما تفجرت حبات البخور علي نار المنقد وعبأ الدخان ذو اللون التركوازي فراغ المندرة فبدأ الحضور جميعا كأنهم كائنات مائية غريبة متربعة في قاع بحر, تصدر عنها حركات مبهمة وزفرات ووشوشة ودمدمة وأسماء جن تسبح في موجات الدخان من قبيل: حركوشن بركوشن ماركوشن يا خدام هذا المكان أقسمت عليكم باسم الرحمن وببركة نبيه الشفيع الحنان أن تظهروا الآن.. الآن.. العجل العجل.. الوحي الوحي الساعة الساعة ثم جئ بالفنجان وقد غطي قاعه بنقطتين من الزيت. راح العراف يمرره بكفه فوق نافورة دخان البخور سبع مرات وهو يتمتم بتعزيمات تحفل بكلمات لا تعرف إن كانت عربية أو سريانية أو فارسية أو فرعونية المهم ان الانفعال الجاد علي وجه العراف وخلف خيوط لحيته الكثيفة المنسقة ثم إنه وضع الفنجان علي الأرض, وطلب أن يتبقي من هؤلاء الأطفال طفل ذو مواصفات معينة: أن يكون ذا جبهة هلالية; أن تكون أسنانه مفلوجة من الأمام; أن تكون خطوط كفيه علي شكل رقم17, أو رقم واحد وسبعين. أحاط بنا صاحب الدار بطرفي عباءته ثم دفع بنا إلي الحصير حيث يتربع العراف ومن خلفه مسند تفحصنا العراف واحدا بعد الآخر, ثم وضع يده علي كتفي وأعلن استياءه من أن شروطه لم تتوفر في أحد منا اللهم إلا هذا الولد يعني أنا توفر فيه شرطان اثنان: هلالية الجبهة والسن المفلوجة أما خطوط كفي فعلي شكل رقم واحد وثمانين. فلما بان عليهم الإحباط أعلن أنه مع ذلك سيحاول لعل البركة تحل في هذا الولد. كنت في التاسعة من عمري آنذاك. مع ذلك فطنت من نظرة العراف ولهجته أنه قد احتاط بسبب يستند عليه إذا فشل في مهمته. ثم إنه وضع كفه العريضة الخشنة فوق جبهتي وقرأ تعزيمة ختمها بالصلاة علي سيد المرسلين. ثم كتب علي قصاصة من الورق كلاما يتضمن مربعات مخططة في داخلها أرقام وأحرف هجائية; سحب رأسي, حشر الورقة بين جبهتي وحافة الطاقية التي كانت تغطي رأسي. أمسك بيدي اليمني, فرد كفها وملس عليه عدة مرات في كل مرة تمر يده علي دخان البخور. قال لي: إثبت وكن قوي الأعصاب حتي لا يتدلدق الفنجان علي يدك. ثم وضع الفنجان بحرص وتؤدة وقال لي: عليك أن تركز النظر في قلب الفنجان وتصف لنا ما سوف تراه. فاقشعر بدني ورحت أقاوم الرعشة في يدي. ولكن بما أنني فضولي بطبعي, ولي شغف عارم لرؤية ما يقال أنني سأراه, لذا فقد استغرقني التحديق في قلب الفنجان وأنا في قمة التحفز والتركيز واشتعال الخيال.