يقول ميكافيللي ليس هناك أكثر صعوبة في التنفيذ ولا اخطر في الإدارة من محاولة إنتاج نظام جديد, لأنك بذلك تواجه عددا ضخما من الأعداء- وهم مجمل المستفيدين من النظام السابق- وعدد ضئيل من الحلفاء . وهم في اغلبهم متحمسين لأنهم راغبون- ولكن غير متأكدين- في الاستفادة من النظام الجديد ورجوعا إلي أدبيات علمTransitology( وهو ذلك المجال في العلوم السياسية الذي يهتم بدراسة عملية التغيير من نظام سياسي إلي آخر, وغالبا ما يكون هذا التحول من الأنظمة السلطوية إلي الأنظمة الديمقراطية), نجد أن هناك تحديات وصعوبات شبه مشتركة بين الدول التي تمر بمرحلة انتقالية بين نظامين سياسيين أولهما سلطوي( قديم) وثانيهما ديمقراطي( جديد). منها علي سبيل المثال: ظهور تيار معاداة الثورة, والذي يهدف لإجهاضها, طرح قضية محاكمات النظام القديم( العدالة الانتقاليةTransitionalJustice), الجدل حول قضية العزل أم الدمج بالنسبة للدوائر التي كانت علي صلة بالنظام السابق, قضية إصلاح مؤسسات الدولة( الإعلامية الأمنية- القضائية), قضية الواقعية السياسية في مقابل التغيير المرغوب فيه أو بمعني آخر قضية سقف المطالب, سواء كانت مطالب سياسية أو اقتصادية, والتعرض لأزمات اقتصادية طاحنة, ذلك للارتباط الوثيق بين الوضع الاقتصادي من جهة وبين الاستقرار السياسي والانضباط الامني من جهة أخري. وفيما يخص الفترة الانتقالية في مصر يمكن الإشارة إلي بعض التوصيات المبنية علي الاستفادة من الخبرات الدولية المختلفة: .1 بالنسبة للتيار المناهض للثورة, والذي يتمثل عمله في صور مختلفة منها علي سبيل المثال بعض التصريحات الإعلامية لتشويه الثورة واعتبارها جزءا من مؤامرة خارجية ووصف الثوار بأنهم مجموعة من العملاء والمخربين, وأيضا تكوين ائتلافات مضادة للائتلافات الثورية مثل آسفين يا ريس والأغلبية الصامتة والتي لا تكتفي فقط بالتصريحات الإعلامية والوجود علي الفيسبوك ولكن تتعدي ذلك بخلق حالة من الوجود الميداني في مقابل ظاهرة ميدان التحرير مثل نماذج(ميدان مصطفي محمود) و( ميدان روكسي) و( ميدان العباسية), بالإضافة إلي أسلوب اخر في معاداة الثورة من خلال استخدام العنف ضد المتظاهرين فيما عرف بظاهرة المواطنون الشرفاء الذين دائما ما يظهرون لمواجهة الثوار تحت دعوي رفضهم للفوضي. من جانب اخر يستمر التخطيط والتمويل لمسلسل الانفلات الأمني المتعمد من خلال أحداث السطو المسلح والخطف وإشعال ملف الفتنة الطائفية أكثر من مرة ومؤخرا أحداث استاد بورسعيد المدبرة في محاولة لجر البلاد إلي حالة الحرب الأهلية والفوضي العارمة. ومن المنطقي أن يعمل هذا التيار لمصلحة النظام السابق, لكنه من المنطقي أيضا انه إذا وجدت الإرادة السياسية لقطع الخيوط التمويلية والتخطيطية بين النظام السابق وبين المنفذين سواء كانوا أفراد أو أجهزة أمنية أو إعلامية, فإنه بلا شك سينحصر تأثير هذا التيار. .2 أما قضية المحاكمات العدالة الانتقالية, فدائما ما ينشأ الجدل حول أفضل البدائل هل يكون العفو أم المحاكمة العادلة أم الانتقام. والحقيقة انه ليس هناك حل نموذجي يمكن استنساخه ونقله من دولة إلي أخري نقلا حرفيا, لكن يمكن الإشارة إلي حقيقة مستخلصة من التجارب الدولية المتعددة, وهي أن الاختيار بين البدائل المختلفة يتوقف علي طبيعة النظام القديم من حيث العدد والقوة. فعلي سبيل المثال في دولة جنوب إفريقيا كانت المحاكمات من شأنها أن توقع عقوبات علي شريحة كاملة في المجتمع وهي طائفة السكان البيض البالغ عددهم5 ملايين, وهكذا كان من الصعب جدا محاكمة احد عنصري المجتمع ومن ثم كان لابد من إتباع طريق العفو ولكن بعد الاعتراف بالذنب وإلحاق العار بهم وتعويض الضحايا معنويا وماديا. من جانب اخر يؤخذ في الاعتبار مدي قوة النظام السابق وليس فقط امتداده داخل المجتمع, فبالنسبة للأرجنتين عندما بدأ النظام المدني( الجديد) في محاكمة قادة النظام العسكري( القديم), قام الأخير بتفجيرات عنيفة وهدد بإغراق البلاد في حرب أهلية, ومن ثم صدرت قرارات بالعفو, ولكن بعد مرور20 عاما استطاع رئيس مدني آخر إلغاء العفو وإعادة المحاكمة والتي انتهت بالإدانة لكل من تبقي منهم بمن فيهم الحاكم العسكري نفسه. وبالنسبة للحالة المصرية فإن طبيعة النظام السابق في مصر في حد ذاته لا تمثل عقبة حقيقية في مواجهة تحقيق محاكمات ناجزة لأنه يتمثل في شخص الرئيس ومجموعة رموز النظام القابعين في السجون, فالنظام السابق ليس نظاما عسكريا مثل النموذج الارجنتيني او نظاما يمثل احدي طوائف الأمة كما كان في دولة جنوب إفريقيا, فهو لا يعدو أكثر من مجموعة من الرموز والمستفيدين منهم, ومن ثم يمكن التعامل معهم بحزم اكثر من ذلك وانجاز محاكمتهم, حيث أن تبني بديل العفو اختيار فيه قدر كبير من إهدار القانون وإهدار لحق المصريين. .3 ضرورة المضي قدما في إصلاح جهاز الشرطة كأحد أهم الأولويات وذلك لان الثورة المصرية قامت ليس فقط ضد الفساد المالي وإنما بالأساس ضد الفساد الامني الصارخ. وقد لجأت معظم الدول في الفترات الانتقالية الي ما يعرف ب إصلاح القطاع الامني(SecuritySectorReform(SSR وهو مفهوم ظهر في التسعينيات في أوروبا الشرقية بعد أن مثل القطاع الامني عقبة حقيقية أمام التحول الديمقراطي وسببا رئيسيا في انعدام الأمن, ومن ثم ظهرت الحاجة لإصلاح هذا القطاع ليكون جزءا من النظام الجديد. .4التأكيد علي أن القاعدة الذهبية في اي مرحلة انتقالية تكمن في القدرة علي التلاقي حول نقاط الاتفاق بين التيارات والأطراف المختلفة, لأنه في الواقع نحن لا نمتلك رفاهية الاختلاف والتخوين, الذي بات هو المشهد السائد في الميدان وفي البرلمان وحتي في وسائل الإعلام, وهو الأمر الذي يؤدي إلي إهدار الجهد لدي النخبة وإثارة حالة من البلبلة لدي العامة. ومن الضروري استيعاب انه من الوارد أن يتولي احد التيارات لمهام في السلطة في الفترات الانتقالية ليس باعتباره صاحب الفضل الأكبر في إحداث التغيير في البلاد وإنما لكونه الأنسب في الفترة الانتقالية والأقدر علي أن تجتمع حوله حالة من التوافق الجماهيري, فعلي سبيل المثال كان للمعارضة اليسارية الفضل الأول في إنهاء فترة الحكم العسكري المستبد في شيلي وكان اليساريين هم أكثر الأطراف دفعا للثمن في ذلك العهد المستبد, إلا انه عقب سقوط بيونشيه الحاكم العسكري, كانت العلاقة بين اليمين واليسار تحمل الكثير من الشك والتوتر. الا ان قوي المعارضة الديمقراطية استطاعت تجاوز هذا الخلاف وهذا الارتياب واجتمعوا علي شيء واحد وهو ضرورة إتمام عملية التحول الديمقراطي والتخلص من الحكم السلطوي القمعي, ولهذا اتفقوا علي مرشح اليمين اليونن برغم انه شخص لا يملك سمات كاريزمية ولا يحظي بالإجماع أو القبول الشعبي الكاسح, لكن هو المخرج الوحيد لعبور المرحلة الانتقالية. هكذا تخطت شيلي المرحلة الانتقالية وتعاقب الرؤساء علي رئاسة الدولة منذ ذلك التاريخ وفقا للدستور بين مرشحين عن اليمين ومرشحين عن اليسار, ولكن ما تم الحفاظ عليه طوال العشرين سنة الماضية هو المسار الديمقراطي. علي اي حال فإن عمليات التحول هي عمليات طويلة الأمد, تتصف بانعدام اليقين, وهو مناخ طبيعي للفترات الانتقالية, وان كل الخسائر الاقتصادية والإنسانية ما هي إلا ثمن مؤلم ولكن منطقي لإتمام التحول الديمقراطي, والتي تسير في مسار ذي اتجاه واحد اي انه لا يمكن العودة إلي الخلف, ولكن هناك أحيانا أحداث أو أطراف تعيق التقدم السريع وتؤدي بعض الأخطاء إلي عرقلة ذلك المسار ومن ثم إبطاءه, لكن الأمر المستحيل هو إيقافه أو العودة إلي فترة الحكم السلطوي, وذلك لان بداية مسار التحول يأتي بعد فترة من النضج الجماهيري والإدراك الذي لا يمكن طمسه أبدا.