لعله من أسوأ الأمور التى يمكن أن تحدث على الصعيد العالمى فى زمن القطبية المنفردة هو أن تصاب هذه القطبية بحالة من الاضطراب والقلاقل داخلياً وخارجياً، ففى هذه الحال سيضطرب العالم برمته، وسيفقد الجميع توازنه، وما بين الكبار سيدهس الصغار، وستندلع الحروب، وتعلو الأصوليات، وتزداد الحركات الراديكالية الساعية للتمترس خلف الهويات، والتقوقع داخلها ووراءها، خوفاً من المجهول. الشاهد أن هناك العديد من الأحداث التى تخبرنا إلى أى حد ومد تعيش واشنطن اليوم حالة من التفكك والانقسام، ما يعطى انطباعات سيئة عن المستقبل الداخلى للبلاد. على سبيل المثال، وقبل أن تنتهى ولاية أوباما الثانية بعامين ونصف، ها هى الأصوات تعلو فى الداخل الأمريكى بين المطالبين بمحاكمة قضائية أو برلمانية للرئيس الأمريكي، والهدف هو عزل الرجل الذى تجرأ على الأمل، ما يعد مفارقة كبرى فى حال ومآل السياسة الداخلية الأمريكية. فقد بين استطلاع أمريكى للرأى أن غالبية الأمريكيين يتفقون مع أصحاب الرأى الذى يقرر بأن مقاضاة الرئيس الأمريكى بتهمة تجاوز حدود السلطة أمر جائز،. ويرى المعارضون أن الرئيس أوباما يتجاوز حدود سلطته حين يعتمد قوانين لا يوافق عليها الكونجرس، وقال 63% من المشاركين فى الاستطلاع الذى أجرته شركة اراسموس ريبورتب إن القوانين يجب أن يصادق عليها أولا الكونجرس. حالة التفسخ الأمريكى الداخلى سوف تتعمق فى الأسابيع والأشهر المقبلة، لاسيما إذا تحققت مخاوف الأمريكيين وظهر على السطح سنودن رقم اثنين حاملا للعالم أسرار أمريكا الخفية، وجميعها فى غالب الظن سوف تخصم مما تبقى لواشنطن من رصيد إيجابى لدى دول العالم تضطرب روح أمريكا فى داخلها، وتفقد بريقها فى عيون العالم من جراء أخطائها الأخلاقية القاتلة، وقد ظهر منها خطآن كبيران فى الأيام القليلة الماضية. أما الخطأ الأول والذى كان معروفاً بالفعل للقاصى والدانى فكان يتعلق بالتجاوزات التى حدثت بعد أحداث الحادى عشر من سبتمبر 2001، فقد أقر الرئيس أوباما بأن الولاياتالمتحدة تجاوزت الخطوط، بعد هجمات 11 سبتمبر، وذلك بتعذيب معتقلى تنظيم القاعدة المحتجزين لديها، وقال اوباما: عندما شاركنا فى بعض أساليب الاستجواب المعززة، تقنيات اعتبرها، وكل شخص نزيه بمثابة تعذيبه فإننا بذلك تجاوزنا الحدود، وتابع خلال مؤتمر صحفى بالبيت الأبيض: ونحن كبلد نتحمل مسئولية ذلك بحيث نأمل عدم تكراره مستقبلا. هل هذا التخبط مرشح بقوة للتصاعد عما قريب جداً ؟ ذلك كذلك بالفعل إذا تستبق تصريحات أوباما تقرير يتوقع صدوره قريبا من لجنة الاستخبارات بمجلس الشيوخ، بتفاصيل برنامج وكالة الاستخبارات المركزية «سى آى أيه» للاعتقال والتعذيب بعد هجمات 11/9. هل فى ظل مثل هذه الأوضاع يمكن لأمريكا أن تعيد ترتيب العالم أم أن الفوضى هى المصير المحتوم ؟ المعروف أن انتخابات التجديد النصفى للكونجرس الأمريكى ستجرى فى شهر نوفمبر المقبل، وسيحاول الجمهوريون السيطرة على مجلس الشيوخ والنواب دفعة واحدة، كخطوة تمهيدية للوصول إلى البيت الأبيض فى 2016 وإزاحة الرئيس الديمقراطي، وفى هذا السياق يتساءل المراقبون هل الأمريكيون منشغلون بالعالم الخارجى بعدما أشعلوا ما قدر لهم أن يشعلوه أم أنهم منكفئون على الداخل، ولا يريدون تركيزاً إلا على مشاكلهم الآنية. أظهرت دراسة قام بها مركز أبحاث كانتارب للشئون الإعلامية فى أوائل أغسطس الحالي، إنه فى 1155 دعاية انتخابية بثتها الشبكات التليفزيونية الأمريكية منذ مطلع العام، بلغت نسبة الدعايات التى تم تخصيصها لشئون السياسة الأمريكية الخارجية أقل من 3%، ما يعنى استمرار تركز اهتمام الأمريكيين على الشئون الداخلية التى ستسيطر على انتخابات الكونجرس المقررة فى نوفمبر المقبل. أين يقع اهتمام الأمريكيين بالمجازر التى أحدثتها إسرائيل فى غزة ؟ وما هى مشاريعهم لعودة الأمن والأمان للعراق، والخلاص من الوباء المسمى داعش، ثم ماذا عن سوريا التى باتت تمثل البطن الرخوة فى منطقة بلاد الشام؟ وإذا ارتحلنا غرباً ماذا عن ليبيا التى عمل الأمريكيون بسرعة غير عادية على إسقاط ألقذافى فيها ؟ كل هذا فى جانب، وهناك جانب آخر يكاد يشتعل والمتعلق بالمواجهة مع روسيا، وبخاصة إذا أقدمت على غزو أوكرانيا عسكرياً فى الأيام القادمة. أظهرت الدراسة أنه فى المرتبة الأخيرة حلت دعايات حول الوضعية فى العراق وأفغانستان والموقف الأمريكى منهما، وهذه شئون يتم التطرق إليها من باب مهاجمة أوباما وإظهاره كرئيس ضعيف أدت قيادته إلى تقويض سطوة أمريكا ونفوذها حول العالم، أما سوريا فقد كانت حاضرة فى دعاية واحدة فقط من ال 1155 التى أحصاها المركز. هل من خلاصة يتم التوصل إليها ؟ ربما باتت دول العالم تواجه وضعاً غير مسبوق على صعيد التوازنات الدولية، ما يحتم عليها طرح مبادرات إقليمية ومحلية لمواجهة الأخطار التى تحدق بها، فالأمريكيون قد سئموا من كون بلادهم شرطى العالم، ولكن الكارثة أن غياب هذا الشرطى مرة واحدة سيخل بحالة المرور الكونى شرقاً وغرباً. لمزيد من مقالات إميل أمين