كالمعتاد، عند أى محاولة للحصول على حق الدولة فى تحصيل الموارد السيادية اللازمة لتمويل الحد الأدنى الآدمى من خدمات الصحة والتعليم، والمياه والصرف الصحى والكهرباء، ناهيك عن دفع أجور تكفى لتغطية الحاجات الأساسية للمواطن المصري، تتصاعد الأصوات بالاعتراض، وتتكرر الاسطوانة المشروخة عن هروب المستثمرين وإغلاق المصانع وطرد العمال. الحديث هذه المرة يتعلق بثروات المناجم والمحاجر المصرية ومشروع القانون الجديد الذى وافق عليه مجلس الوزراء وانتهى مجلس الدولة من مراجعة بنوده. الاعتراضات تتوالى حاليا على بنود ذلك القانون وما يضيفه من أعباء على المستثمرين. يشكون من رفع إيجار المنجم إلى 10 آلاف جنيه سنويا، ويولولون بشأن حصول الخزانة العامة على إتاوة 10% من قيمة الإنتاج. المعترضون يريدون الإبقاء على رسوم الاستغلال وايجارات المناجم عند مستوياتها الحالية والتى لم تتغير منذ عام 1956! هل يعقل أن يكون رسم استخراج رخصة المنجم 2 جنيه، وأن تكون القيمة الإيجارية للمنجم 5ر12 جنيه سنويا لكل كيلو متر مربع؟ هل يعقل ألا يكون للشعب، الذى تنوب عنه الدولة فى إدارة ثرواته الطبيعية، نصيب من ناتج استخراج تلك الثروات؟ هل يعقل أن يكون ما تحصله الخزانة العامة كرسوم عن استخراج الحجر الجيرى 20 مليما للطن بينما يباع فى السوق بما لايقل عن 750 جنيها ؟ هل يعقل أن يكون سعر متر الطفلة لشركات الاسمنت، التى تشكو لطوب الأرض من تخفيض دعم الطاقة، لا يتجاوز 11 مليما!...المعترضون يقولون إن الإصرار على التمسك بما نص عليه الدستور من حظر تصدير المواد الخام إلا بعد إدخال قيمة مضافة عليها أمر يضر بتنافسية نشاط المناجم والمحاجر فى مصر. يريدون الاستمرار فى تصدير المواد الخام «بتراب الفلوس» ثم نقوم باستيراها بعد تجهيزها فى الخارج بآلاف الجنيهات. هل يعقل كما يؤكد المتخصصون أن نستمر فى تصدير طن الرمال بنحو 10 دولارات، لكى يقوم المستورد فى الخارج بغسله وبيعه بما لايقل عن 200 دولار؟ هل يصعب علينا الحصول على هذه القيمة المضافة بمجرد إقامة مصنع لغسل الرمال؟.. الواقع أن هناك شبه إجماع مجتمعى على ضرورة تعديل قائمة الأسعار التى تبيع بها الدولة ثروات المناجم والمحاجر للمستثمرين، وهى الأسعار التى يعود تحديدها إلى عام 1956 والتى مازالت تحسب بالمليمات. لم تكف أصوات الاقتصاديين والسياسيين على مدى السنوات القليلة الماضية عن المطالبة برفع هذه الأسعار والمقارنة الدائمة بين المليمات التى تؤول إلى خزانة الدولة والأرباح الطائلة التى يحققها المستثمرون. وكان التصور السائد لدى الجميع أن تعديل قانون الثروة المعدنية كفيل بتصحيح هذا الوضع. إلا أن المعلومات التى كشف عنها المتخصصون فى مجال الثروة المعدنية قد أوضحت أن الأمر أخطر وأكبر من ذلك وأنه يتعلق أساسا بنمط العلاقة بين الخزانة العامة والمحليات. فطبقا للوضع الحالى تقوم المحافظات بإنشاء مشروعات لاستغلال المحاجر والملاحات، كمشروعات ربحية تتولى إعطاء تصاريح الاستغلال للأفراد والشركات طبقا لما تحدده هى من أسعار، ثم تورد للمحافظة مقابل هذا الاستغلال حسب الأسعار التى حددها القانون فى عام 1956. الفرق يذهب للصناديق الخاصة بالمحافظات. مشروع القانون الجديد ينقل سلطة الإشراف على جميع المناجم والمحاجر والملاحات لهيئة الثروة المعدنية. الصوت العالى للمعترضين يطالب بإعادة النظر فى هذا البند « لأن الموضوع أمر مستقر منذ سنوات عديدة ويدار بواسطة المحافظات بالكامل وله موارده التى تعتبر موارد إضافية للمحافظات لاستغلالها فى غير بنود الموازنة المعتمدة». الأمر إذن لا يتعلق برفع أثمان بيع ثروات المناجم والمحاجر، فالمستثمرون يدفعون فيما يبدو أثمانا تزيد كثيرا فى الواقع عن المليمات التى تحصلها الدولة، ولكن تلك الموارد تؤول إلى الصناديق الخاصة فى المحافظات. طبقا لتقارير الجهاز المركزى للمحاسبات فإن تلك الموارد تستخدم فى تمويل المكافآت المالية الضخمة لكبار المسئولين فى المحليات. الاحتجاجات تستهدف إبقاء ذلك الوضع على ما هو عليه. الفساد المقنن يتخفى وراء صيحات الإضرار بمعدلات الاستثمار وتشريد العمالة. الهدف من السماح للمحافظات بإنشاء الصناديق الخاصة كما نعلم كان يتمثل فى الأصل فى التصريح لها بالحصول على الموارد اللازمة للإنفاق على الخدمات العامة الحيوية والعاجلة التى لم يحدد لها بنود فى الموازنة العامة للدولة سلفاً، و تمويل بعض المشروعات والخدمات بالمحليات فى إطار الخطة العامة للدولة. فى البداية كانت فوائض هذه الصناديق تؤول إلى الموازنة العامة فى نهاية السنة المالية، إلا أنه بالتدريج تم السماح باحتفاظ المحليات بفوائض الصناديق وترحيلها من سنة إلى أخرى وعدم تحويلها إلى الخزانة العامة للدولة. بالتدريج صارت الصناديق الخاصة تستأثر بجزء هام من الموارد السيادية. طبقا لتقارير الجهاز المركزى للمحاسبات، بلغ الإيراد السنوى للصناديق والحسابات الخاصة فى عام 2010/2011 أكثر من 98 مليار جنيه. الدولة اكتفت مؤخرا بإصدار قانون بأن يؤول للموازنة العامة 10% من إيرادات الصناديق الخاصة. تصاعدت الولولة على الخدمات والمشروعات التى ستتوقف. المطلوب ضم كامل إيرادات ومصروفات الصناديق الخاصة للموازنة العامة للدولة. ولتكن نقطة البدء حصر موارد جميع الصناديق والحسابات الخاصة القائمة، وحصر المشروعات والخدمات التى يفترض أنها تمولها، وإلزام الجهات المالكة لتلك الصناديق والحسابات بالإنفاق على هذه المشروعات لحين استنفاد مواردها بالكامل قبل اللجوء إلى استخدام الاعتمادات المخصصة لها فى الموازنة العامة. لمزيد من مقالات د. سلوى العنترى