من المفارقات المثيرة للانتباه، هو ذلك الذى يجرى فى الساحة المصرية الآن على خلفية الاستعداد للانتخابات البرلمانية. حيث يلاحظ اهتمام محموم بفكرة التحالفات الانتخابية وكأنها هدف فى حد ذاته. والأغرب أن كل طرفين أو ثلاثة سارعوا بعمل تحالف للاستقواء فى مواجهة الآخرين استعدادا لتحالف أكبر سعيا نحو ايجاد توزيعة ملائمة لمقاعد البرلمان ترضى أطراف التحالف وكأن البرلمان القادم هو «عزبة خاصة» بهذا التحالف أو ذاك. ويكاد الأمر يعطى انطباعا بأنه ليس هناك حرص على المصلحة العامة، بل حرص على مصالح خاصة أو ضيقة أو ذاتية أو حزبية هائمة فى التاريخ!! كما أنه من المفارقات الغريبة الزعم بأن هذا التحالف أو ذاك تحت مسمى «تحالف مدني» وأن السعى محموم نحو ضم كل الأطراف فى تحالف واحد مدني!! وأتساءل ماهو المعنى لكلمة «المدني»؟! فهذه الكلمة تشير إلى أن العدو السياسى أو الخصم على الأقل هو الفاشية الدينية أو الفاشية العسكرية فى الانتخابات. ولكن القصد بطبيعة الحال بافتراض حسن النوايا.. وهى غير موجودة لدى غالبية التحالفات الانتخابية المطروحة، التكتل لمواجهة جماعة الاخوان الارهابية وأنصارها فى الأحزاب المتأسلمةالتى ترغب فى دخول الانتخابات!! ثم يطرح «عمرو موسي» ليكون رأس الحربة فى تكوين هذا التكتل المدنى ليصيغ وثيقة لتجميع «الشامى على المغربي» فى شكل عصير «الكوكتيل» حتى لا يكون له طعم خاص، على خلفية أنه كان رئيس لجنة «تعديل الدستور»، ويحق له أن يقوم باستكمال المهمة بتجميع كل الأطياف ربما يوصله إلى رئاسة البرلمان، وكأنهم صنعوا تعديلات تعيد انتاج نظام مبارك وفى الصدارة رموز ذلك النظام الفاسد والمستبد، والمفروض أن الشعب قد أسقطه فى 25 يناير 2011م، ثم أسقط من حاول سرقة ثورته وذلك فى 30 يونيو 2013م، ولديه الاستعداد للتحرك حسب تقديرى حال استمرار الأوضاع واعادة انتاج السابق بكل أسف!! ومازالت الفزاعة من جماعة الاخوان الارهابية قائمة والبديل هو سيطرة رموز مبارك واستحضارهم فى المشهد بكثافة تحتاج إلى وقفة حاسمة، وإلا ما انتصرت الثورة المصرية فى 25 يناير، 30 يونيو. فى الوقت الذى اتخذ الشعب قراره بالاعدام السياسى على هذه الجماعة وأنصارها الارهابيين، ولم يعد لهم وجود أو رصيد جماهيرى نهائيا، ومن المغالاة إذن أن يتم الاحتشاد والتعبئة على هذه الخلفية غير القائمة واقعيا، أو اتخاذها مبررا لتجميع المتناقضات وما نراه حاليا هى تحالفات انتخابية الغرض منها الوصول إلى البرلمان أو السيطرة عليه لاعادة انتاج نظام مبارك برموزه وقواعده، امتدادا لاستمرار سياساته، وكأن مصر لم تحدث فيها ثورتان. والمشهد مثير للضحك عندما يعلن أحد أحزاب اليمين الرجعى أنه مع الثورة وضد الفلول ورموز مبارك فى ذات الوقت الذى يقبل فى داخل حزبه هؤلاء كأعضاء وسط زفة كبري، وحفاوة على صفحات جريدة هذا الحزب أو ذاك، فكيف تفسر هذه التناقضات. ولعل المتابع لتصريحات رموز هذا اليمين والشخصيات البارزة فى أحزابه عن تمويل هذه الانتخابات، يقال إنه تم تخصيص (100) مليون جنيه!! فيرد آخر بتخصيص (200) مليون جنيه، بينما يصرح »المعلم« الكبير صاحب التمويل الضخم والذى يرغب فى التحكم فى العملية كلها ليأتى البرلمان على هواه لمحاكاة تجربة أحمد عز وشركائه، بأن سيخصص (1.5) مليار جنيه للصرف على الانتخابات حتى يضمن الاتيان باعضاء قادرين على حماية ثرواته، ولا يأتى بأشخاص يقفون ضده!! وأصبح «المال السياسي» مسألة ملحوظة، الأمر الذى ينبئ بكوارث حقيقية، ولن ينتج عن هذا الوضع برلمان معبر عن الشعب، وثورتيه، بل برلمان يعكس المصالح الشخصية والحزبية ضيقة الأفق. ولذلك نرى تخفيض سقف الصرف على الانتخابات إلى (100) ألف للمقعد الواحد (فردى أم قائمة) كحد أقصى بدلا من (500) ألف جنيه كما حدده القانون الجديد الخاص بالبرلمان (مجلس النواب). والأصل فى تكوين التحالفات أن تكون ذات طبيعة سياسية أو بمرجعية فكرية. كما أن الأصل أن الحزب السياسى والرجل أو المرأة فى مجال الخدمة العامة هو مدنى بطبيعته وقد يكون متدينا فى خلقه ومسلكه وعلاقاته بالتمسك بالمبادئ والقيم دون أن يوظف ذلك سياسيا وإلا دخل فى المنطقة المحظورة. ومن ثم فإن الدولة تصبح مدنية وحكومتها مدنية ونظام الحكم فيها مدنيا استنادا الى دستور مدني، وفى مصر الثورة الآن أصبح هناك دستور جديد أكد هذه المعانى ويحتاج الأمر الى تفعيل المادة 74 التى تنص على حظر الأحزاب السياسية على أساس ديني، ومراجعة جميع الأحزاب القائمة وعددها (68) طبقا لآخر إحصائية للوقوف على الأحزاب الدينية وعددها (22) حزبا تحتاج لاعادة توفيق أوضاع وتأسيس جديد على أساس أنها أحزاب سياسية مدنية فحسب. وفى أصل نشأة الاتجاهات السياسية وخصوصا فى فرنسا، فإنه قد ولدت ثلاثة اتجاهات داخل البرلمان الفرنسى (وسط يسار يمين). ولكل اتجاه سماته وتوجهاته وأفكاره وانحيازاته. ومن ثم فإن أردنا تحالفات حقيقية يتم من خلالها بلورة الاتجاهات السياسية الرئيسية بدلا من التشرذم والتشتت الموجود، تفعيلا لممارسة سياسية جادة وواضحة، فإن من الضرورى انشاء ثلاثة تحالفات كبري. الأول: تحالف الوسط ويضم التيارات المعتدلة والثورية والاتجاه القومي، يتأسس على خلفية الثورتين (25 يناير 30 يونيو) ومطالب الشعب ويهدف الى إحداث التغيير الحقيقى بتقويض نظامى مبارك والإخوان، والثاني: تحالف اليسار بكل طوائفه، وهو يميل الى الإتجاه الراديكالي، أى التغيير بكل الوسائل، والثالث: تحالف اليمين بكل طوائفه وهو يعبر عن الرأسمالية بدرجاتها (الاجتماعية حتى المتوحشة المتطرفة). وقد يشذ عن ذلك بعض الكيانات حزبية أو قوى مختلفة له وجود على الأرض، وقد تتداخل بعض الكيانات لأسباب مختلفة، ولكن إذا أردنا أن نتحدث عن تحالفات، فالأصل ما سبق أن ذكرناه دعما لممارسة ديموقراطية تليق بشعب قام بثورتين، والتزم بالطابع السلمى فى تحقيق خطواته الأولى عن طريق التغيير الثورى الهادف لتحقيق مطامح الشعب فى حياة أفضل. فى هذا السياق كان جهدنا معا، نحو تأسيس تحالف «العدالة الاجتماعية: «25 يناير 30 يونيو»، على خلفية التحالف بين المتوافقين فكريا وسياسيا، والملتزمين الحقيقيين بالثورة المصرية وحتمية التغيير الجذرى وتغيير معادلات القومي، ويقوم التحالف على أهداف أربعة (عدالة إجتماعية تنمية شاملة ودور واسع للدولة فى تحقيقها حرية وديمقراطية استقلال وطنى وتحرير الإرادة المصرية)، وأعتقد أن مثل هذا التحالف السياسى الانتخابى هو السبيل لترجمة نمط التحالفات السليم، وما عدا ذلك فهى تحالفات شيطانية لا أصل لها، ولا عمر لها قائمة على عنصر المصالح الشخصية والضيقة ومصيرها الفشل الذريع. فضلا على أن القادمين من زمن نظامى (مبارك والإخوان)، فهؤلاء يمكنهم ان يكونوا «تحالف المنبوذين»، لأن مصيرهم العزل السياسى والشعبي، لأنهم أجرموا فى حق الشعب. ومتهمون بالفساد السياسى الذى لم يتم تفعيل جريمته حتى الآن. وقد أصبح المشهد الآن محصورا بين تحالفات تهدف الى دعم الثورة والتعبير عن مطامحها، وتحالفات تسعى لإجهاضها وتحقيق مصالح أطرافها بكل أسف. أو محصورا بين قوى التغيير الثوري، وقوى المحافظة على الأوضاع القائمة. أستاذ علوم سياسية - من مؤسسى تحالف العدالة الاجتماعية لمزيد من مقالات د. جمال زهران