علي الرغم من أن القطاع الزراعي هو القطاع الأكثر تعرضا لظلم وقهر النظام السابق حتي أصبح المؤهل الأول للقيام بالثورة, إلا أنه كان القطاع النموذج للثائر الذي يناضل ولايعطل عملا أو يدمر اقتصادا. فطوال الثمانية عشر يوما للثورة وما تبعها من شهور الانفلات الأمني وسرقة سيارات النقل بما عليها لم ينقطع إنتاج الغذاء يوما لإطعام شعب بأكمله ولو حدث لكان ضاغطا رهيبا علي الحكم في مصر, فثورات الفلاحين والعمال عنيفة مدمرة والثورة الفرنسية نموذج لذلك. كان الحكم السابق يتسابق لخدمة الصفوة وإعفائهم من الضرائب ورسوم اصدار تراخيص مصانعهم, وفي الوقت نفسه يتفنن في زيادة أعباء المعيشة والضرائب والرسوم علي الفقراء والمعدمين, ورغم ارتفاع نسبة الفقر في الريف بضعف مثيلاتها في المدن, إلا ان النظام السابق بدأ بتحرير إيجار الأراضي الزراعية قبل أن يحرر إيجار المساكن القديمة في المدن وبالتالي اصبح الفلاح المعدم مطالبا بتسديد أربعة الاف جنيه سنويا للفدان, في حين تعيش أسر كاملة في سنة ترمح فيها الخيل مقابل بضعة جنيهات مع إن مبيت سيارة صغيرة في جراج تابع للدولة تحت كوبري يتكلف300 جنيه شهريا!!. والغريب ان مجلس الشعب الذي طوعه الحاكم والذي يضم نصف اعضائه من العمال والفلاحين هو من أقر هذه الزيادة, لأنهم في الحقيقة إقطاعيون وليسوا بعمال ولا بفلاحين, ثم يأتي دور الأسمدة الكيميائية وهي تمثل روح الزرع وغذاءه بعد انقطاع طمي النيل وقلة الاعتماد علي السماد البلدي لترتفع اسعارها من عشرة الي خمسة وثلاثين ثم إلي خمسة وسبعين جنيها للشيكارة من أجل زيادة معاناة الفلاحين, والأمر لم يتوقف علي هذه الارتفاعات المتتالية بل امتد الي تهريب الكيماوي إلي المحاسيب والتجار للتربح, ليحصل الفلاح علي شيكارة الكيماوي بأسعار تقترب من200 جنيه وهو الذي يحتاج الي أربع منها في الحاصلات الحقلية, وعشر في قصب السكر!! وبذلك يكون الفلاح المسكين قد تحمل أربعة مليارات جنيه زيادة في الأسعار ذهبت الي جيوب التجار والمقربين, هذا الأمر مازال ساريا حتي الآن, وهناك محاولات لإقناع رئيس الوزراء بترك أسعار الأسمدة لآليات السوق بحجة منع السوق السوداء وهو حق يراد به باطل ويدخل في إطار رفع الدعم عن الفقراء أولا, مع ترك دعم الأغنياء دون مساس, فليس من المعقول أن يشتري الفلاح المصري الأسمدة بنفس السعر الذي يباع به للمزارع في أمريكا وفرنسا وإنجلترا وألمانيا خاصة ونحن دولة مصدرة للأسمدة والتي يجب ان توجه الي زيادة إنتاجنا من الغذاء بواسطة الفلاحين وهم الفئات الأفقر, وبالتالي فهم مستحقون للدعم مرتين الأولي لكونهم المنتج الوحيد للغذاء, والثانية لأنهم الأفقر والأكثر استحقاقا للدعم. تأتي بعد ذلك مأساة المبيدات اللازمة لحفاظ الفلاح علي زرعه والتي يتحكم فيها ايضا اثرياء وتجار البلد ومهربوه لنوصف باننا السوق الأكثر عشوائية وغشا للمبيدات في العالم, وان اكثر من90% من مبيداتنا اما مغشوشة أو منتهية الصلاحية أو محظورة ومهربة في ظل غياب كامل لرقابة الدولة لصالح مصاصي دماء الفقراء من الجشعين, حتي أن مسئول ين حكوميين حوكموا في قضية المبيدات المحظورة المشهورة واخرين ينتظرون في قضية المبيدات المسرطنة والتي صدرت بشأنها مئات الأبحاث العلمية في السنوات العشر الأخيرة تتناول علاقة المبيدات الزراعية بمختلف انواع السرطان, الأمر امتد بعد ذلك الي الإضرار المتعمد بصحة الفلاح بإطلاق جميع انواع الملوثات القاتلة في المياه التي يستخدمها في الري من الترع والمصارف الزراعية, فليس هناك دولة ترتضي أن يطلق نحو120 مصنعا كميات من الملوثات الصناعية القاتلة تصل الي4.7 مليار م3 سنويا في النيل والترع والمصارف مباشرة, رافضة الالتزام بخطط توفيق الأوضاع ومعالجة هذه المخلفات الخطرة أما الصرف الصحي فالمحطات القائمة منها تتلقي ضعف سعاتها العلمية, فتقوم بالقاء نحو3 مليارات م3 من مياه الصرف الصحي غير المعالجة في الترع والمصارف, ثم تقوم بإلقاء كمية مماثلة أخري في نفس المجاري المائية بمعالجة أولوية أي منزوعة المادة الصلبة فقط, بينما يرتع فيها الفلزات الثقيلة والسموم والميكروبات والفيروسات القاتلة والممرضة لتصيب الفلاح البسيط بكل الامراض المهلكة له ولأبنائه, ثم يأتي تسويق حاصلاته وترك الدولة للفلاح لنهش التجار واستغلالهم له, فلا قطن ولازيوت أو ذرة تجد من يشتريها لنستوردها بضعف أسعار زراعاتها, لأن الأجنبي أولي بأموالنا من فلاحينا, وأخيرا تقوم الدولة بانتزاع الأراضي الزراعية لتقيم عليها أسواقا تجارية في جميع محافظات الدلتا وأيضا المطارات والمصانع وغيرها, ثم تلوم الفلاح بالبناء علي أرضه الخاسرة. إذا أرادت الثورة مصالحة الفلاحين فعليها أن تعيد إليهم حقوقهم المسلوبة بضبط أسعار وأسواق الأسمدة والمبيدات, وعودة الدورة الزراعية لتحافظ علي خصوبة تربته, وتجبر شركات قطاع الأعمال للزيوت بالتعاقد المسبق مع الفلاح لزراعة بذور زيوت الطعام من صويا وعباد ثم تسوق أقطانه الطويلة مسبقا للخارج وتزرع الصحراء بالأقطان القصيرة اللازمة لقلاعنا النسيجية وتوقف فورا تلوث مياه الترع والمصارف, وتضع خططا عاجلة لدخول الصرف الصحي للريف وتحسين أحوال المعيشة والحد من الفقر, ورعاية الفلاح صحيا واجتماعيا وتوفير مدارس وسكن لأولاده, فالفلاح ينبغي أن يكون أول من يحصد ثمار الثورة. المزيد من مقالات د.نادر نور الدين محمد