حلِّت، فى اليوم السابع من شهر يونيو الماضى، ذكرى رحيل علم من أعلام الفن والثورة والوطنية والدفاع عن العدل والكرامة : الشيخ «إمام عيسى»، الذى غادرنا فى ذلك اليوم من عام 1995. «وُلدت فى 2 يوليو 1918، فى قرية «أبو النمرس»، التابعة لمحافظة الجيزة، وأبواى من نفس البلد عصباً وماعوناً، ومما يٌزيد فخرى أننى لم أولد وفى فمى ملعقة من ذهب مثل أبناء العمد والمشايخ، ولكن وُلدت لأبوين فقيرين، وكان أبى يعمل فى مهنة «تدرية الغلال»، بعد حصادها، وكان يبيع زجاجات لمبات الجاز، التى كانت مستخدمة فى الريف للإنارة فى ذلك الوقت، ودخلت «الكُتّاب» وأنا فى الخامسة من عمرى، وعشت بالبلد حتى سن 12 سنة». هكذا يوجز الشيخ إمام نشأته، (فى حديث مع مُحِبَّهُ وحافظ تراثه، الشاعر والأديب «أ.سيد عنبه»)، وبين يومى الميلاد والرحيل، لم يمنعه فقدانه لبصره صغيرا، من أن يعيش حياته، التى امتدت نحو 77عاما، بالطول والعرض: فقيرا وذكيا وطموحا وحائرا فى دروب وحارات «المحروسة»، تحفزه موهبة جارفة، لأن يحفظ القرآن، وأن يتلوه، ويجوده، وأن «يرتشف»، كما عبّرَ ببلاغة، من معين كل من كان يجد لديه ما يتعلمه منه: الشيخ «محمد رفعت» بتلاوته السماوية لآى الذكر الحكيم، والشيخ «درويش الحريرى»، الذى هو، كما يذكر فى نفس الحديث: « أستاذى وأعترف بفضله على وارتشفت من منهله بقدر ما أستطيع، وكل ما أخذته منه وهو بلا فخر كثير، إلا أنه كما تأخذ الإبرة من البحر الذى ليس له شطآن»، وبواسطته تعرف على «فطاحل الملحنين وقتها»: الشيخ «زكريا أحمد»، والشيخ «زكريا صبح»، والشيخ «على محمود»، الذى كان «يُعتبر إمام أئمة الإنشاد الدينى»، فضلا عن الشيخ «سيد درويش» الذى اعتبره: «أول رائد للأغنية السياسية، وقد تعلمت من أغنياته وألحانه كل ما أبدع من جمل موسيقية، وأعتز وأفخر بأنى سرت على دربه» وفى هذه الرحلة الطويلة مرت حياة «مولانا الشيخ إمام عيسى» بمحطات عديدة، قادته بعضها إلى وهدة البؤس والحرمان، والوحدة والعذاب، وأخرى إلى غياهب السجون وظلمة الزنازين، لكى يصبح رهينا آخر للمحبسين، لكنها رفعته مرات، كذلك، إلى قمة غير مسبوقة، حيث تربع على عرش القلوب الثائرة والضمائر الحيّة، ليس فى مصر وحدها، وإنما فى كل مكان أمّهٌ عرب نطقوا بلغة الضاد، وطربوا لإيقاعات موسيقاها، وأمضّهم الشوق لنسائم الحرية والانعتاق من أغلال الاستبداد والقهر والترويع وعسف السلطان والمستعمرين: فمن فلسطين التى غناها وغنى جراحها وآلامها، إلى تونس الثائرة، مرورا بسوريا (التى رفع محبوه سيارته، يوم زيارته لها، فوق الأكتاف)، ولبنان وليبيا، فضلا عن فرنسا وبلجيكا، وغيرها... كانت أغانى الشيخ إمام، هى مارش النضال والثورة والفداء، بكلمات لأعظم مبدعى وطننا المصرى والعربى الكبير: «فؤاد قاعود»، وسيد حجاب»، و» نجيب شهاب الدين»، و»زين العابدين فؤاد»، و»محمود الشاذلى»، و» محمود الطويل»، و»مصطفى زكى»، و»سميح القاسم»، و»توفيق زياد»، و»فدوى طوقان»، وغيرهم من المبدعين، القدامى والمعاصرين، فضلا عن كلمات «عمنا» الكبير، شاعر الوطن والشعب، «أحمد فؤاد نجم»، الذى شكّلَ معه، منذ التقيا فى عام 1962، «دويتو» فنى وثورى عزَّ نظيره، كتب فيها «نجم»، وغنى «إمام»، عشرات الأغانى والأناشيد الهادرة، التى كانت زاداً لم يجف معينه أبدا، هى وإبداعات الثنائى العظيم «سمير عبد الباقى/ عدلى فخرى»، لأجيال وراء أجيال، هزٌتها الهزيمة الفادحة، عام 1967، فراحت تلملم جراحها، وهى تعيد بناء ماتهدم من جيوش واستحكامات، مادية وسيكولوجية، مُقسمةً على تحرير الأرض المحتلة، وتطهيرها من دنس العدوان الصهيو أمريكى، واستعادة الكرامة!. كان «أحمد فؤاد نجم» و»الشيخ إمام»، وكنا نحن أيضاً، أبناء التجربة المزلزلة، تجربة تجرع مرارة هزيمة 1967، التى لم يكن للشعب يدٌ فيها، ف «الشيخ إمام»، كما يقول «د. حسن حنفى»: « ظهر فى المناخ الاجتماعى والسياسى لعصر مابعد النكسة، وأن محاولة قصر مهمته على مهمة الألحان الشعبية، وجعله (مجرد) ظاهرة فنية، تأخذ من بعض القضايا الاجتماعية والسياسية سُلماً للشهرة، (كما حاول البعض من «كتبة النظام» أن يفعل، تقليلا من شأنه، وتقزيماً لدوره)، لهى محاولة ترمى إلى تفريغ ألحان «الشيخ إمام» من كلماتها، ومن مضمونها، وهو سبب انتشار فنه»(*). تعرفت على الثنائى «نجم إمام»، فى مفتتح عام 1971، وكنت آنذاك طالبا بكلية الهندسة، جامعة القاهرة، وقد هزتنا من الأعماق أغانيهما: «مصر يامَه يابهية»، « جيفارا مات»، «إذا الشمس هلت»... إلخ، ثم لم يمض أكثر من عام حتى جمعتنا جدران «باستيل» مصر، معتقل «القلعة»، (القروسطى)، الرهيب، حيث ألقت بنا السلطة، نحن أعضاء «اللجنة الوطنية العليا للطلاب»: «أحمد عبد الله»، (طالب الاقتصاد والعلوم السياسية)، وكاتب هذه السطور، (طالب الهندسة)، و»زين العابدين فؤاد»، (طالب الآداب)، و»شوقى الكردي»، (طالب الطب البيطري)، و»سمير غطّاس»، (طالب طب الأسنان)، و»محمد نعمان»، (طالب الزراعة)، … وغيرهم، إلى قاع زنازينه الرطبة المظلمة، بعد فض الاعتصام الشهير للحركة الطلابية الوطنية، ،فجر يوم 24 يناير 1972. وفي تلك الظروف، كتب ولحن الثنائى «نجم/إمام»، وغنيا وغنت حركة الطلاب الوطنية، وغني الشعب معهما، «بكائية يناير» : «أنا رحت القلعة وشفت ياسين/ حواليه العسكر والزنازين/ والشوم و البوم وكلاب الروم/ يا خسارة يا أزهار البساتين/ عيطي يا بهية على القوانين!». «أنا شفت شباب الجامعة الزين/ أحمد و بهاء والكردي وزين/ حارمينهم حتى الشوف بالعين/ وف عز الظهر مغميين/ عيطي يا بهية على القوانين!». «وقابلت سهام/ في كلام إنسان/ منقوش ومأثر ف الجدران/ عن مصر وعن عمال حلوان/ مظاليم العهد المعتقلين/ يطي يا بهية على القوانين!». .... .... .... « زغرطي يا بلدنا لدول مساجين/ واسمعي يا بلدنا خلاصة القول/ وباقولك أهه وانا قد القول/ مش ممكن كده/ حيحول الحول/ على كده والناس يفضلوا ساكتين! «. «خليكوا شاهدين/ خليكوا فاكرين/ أنا رحت القلعة/ وشفت ياسين». كان الرباط الذى جمع الثنائى الفنى الوطنى العظيم «نجم/إمام»، بالحركة الطلابية والشبابية الوطنية، أمر بالغ الندرة والدلالة، فقدرة أغانيهما، والعديد منها كانت تمجيدا للطلاب وانتفاضاتهم، على حفز الجماهير من أجل الحركة والفعل كانت امراً غير مسبوق، ولا يُقارن بها إلا أغانى فنان الشعب العظيم «سيد درويش»، ودوره، ودورها، فى شحذ الروح الوطنية إبان ثورة 1919. ولعل أن يكون هذا هو سر تحسس الأنظمة ومؤسساتها القمعية، وتحمس الجماهير، فى المقابل، لفن هذا المبدع الكبير، وأذكر أنه فى سنوات العمل الطلابى الوطنى، كنا كلما احتجنا إلى إثارة الحماسة فى نفوس الطلاب ودفعهم إلى التظاهر، (السلمى طبعا!)، من أجل قضيتنا الوطنية أو الاجتماعية، كانت (وصفة) «إمام/نجم»، أو»سميرعبد الباقى/عدلى فخرى»، هى الوصفة الذهبية المضمونة، إذ ما أن «يتسلطن» الشيخ، وتنطلق عقيرته الذهبية بالغناء ل «مصر الأم البهية»، مُطلقاً «مارش الخلاص»: « ياتجهزوا جيش الخلاص/ ياتقولوا ع العالم خلاص»، حتى تندفع جموع الطلاب إلى الشارع، هاتفة لمصر ولحريتها، مهما كانت العوائق وعظمت التكاليف، ومنها اعتقال الشاعر والمغنى ايضاً. ولأن الشيخ «إمام» ابن هذه الأرض الطيبة، «الشقيانة»، بكل آلامها وتباريحها، ومعاناتها وعذاباتها، على مر القرون وتعاقب الأحقاب، فقد أتت ألحانه عامرة بما يشجى وجدان وأسماع ناسها البسطاء وأهلها الذوّاقة، ويشدهم شدّا، وهو مادعى واحدٌ من كبار المثقفين المصريين، «د. فؤاد زكريا»، بمجرد الاستماع له، لاعتباره «ظاهرة» فى حد ذاتها، ظاهرة تتمايز عن كل مايصطنعه «الآلاتية» الآخرين من تنويعات لحنية كسولة وباهتة ومهترئة، تملأ حياتنا الفنية، بالضجيج والعجيج!. فأداء «الشيخ إمام»، كما يوصّفه د. زكريا، هو «مزيج من الإنشاد والدعوة والخطابة وصيحات الحماسة والإعجاب وهمسات الاستنكار وغمزات اللوم والتقريع، إنه يترك فيك إحساسا بأنه يدعوك إلى شئ، ولا يكتفى بإمتاعك فنيا، وحين ننظر إليه فى ضوء هذا الهدف الأوسع، نجد أن جوانب النقص فيه قد تحولت كلها إلى مزايا تخدم غرضه الحقيقى، فقلة الآلات الموسيقية تزيد من إحساسك بإخلاصه، وصوته الذى لا يخلو من رنة الخشونة يزيده ارتباطا بالشعب الكادح الذى يغنى له.. وألحانه، حتى حين تظل تلتزم الطرق التقليدية للموسيقى الشرقية، هى أصلح أداة لتوصيل معانيه المصرية الصميمة إلى السامعين»(*). لكن أخطر مافى فن «الشيخ إمام» هو أنه فن «تفاعلى»، أو»تشاركى» بامتياز، بمعنى أنك، مهما كانت وضعيتك، الفكرية أوالسياسية أو الطبقية: مديراً أم غفيراً، غنياً أم فقيراً، صغيراً أم كبيراً، رجلاً أم امرأة، مصرياً أم عربياً، أو حتى أجنبياً... فبمجرد التواجد فى حضرته، ستكتشف بقدرة قادر أنك قد أصبحت تمتلك قدرة غير مسبوقة على الغناء، حتى وإن لم تكن قد أقدمت على ممارسته ولو مرة واحدة فى حياتك كلها. فإنت مدعو بمجرد دخولك إلى معيته لأن تطلق لروحك العنان، وأن تحرر أشواقك الإنسانية التوّاقة للانعتاق من قيودها، فتتخلص من ظلال الاستبداد الذى عشت تحت وطأته عقود تلو عقود، فتنشد، مع الكثيرين غيرك، لهم نفس وضعيتك، من أعماق فؤادك، و»يلعلع» صوتك الأجش، كالمحروم الذى يلتمس الراحة والرى بعد طول عطش ومعاناة!.. حتى ليبدو للمرء، كما يقول «د. فؤاد زكريا» أن هذه الأغانى» قد وضعت بحيث يصبح الجمهور جزءًا منها، أو تصبح هى جزءًا من الجمهور... ومن هنا كانت قيمة تاثيره، إذ أن الاستماع إليه ليس شيئاً عارضاً، يهدف غلى مجرد الترفيه والترويح عن النفس، وليس شيئاً يمارسه المرء وهو يشعر أنه «مشاهد» موضوعى منفصل عن العرض المقدم، بل أن عنصر المشاركة أساسى بين الجمهور والفنان فى تجربة الاستماع هذه، حتى ليكاد التمييز بينهما يمَّحى أحياناً، ويحس الجمهور أنه يردد كلمات وألحاناً صنعها هو ولم يصنعها له أحدٌ»(*). لكن الدور السياسى لأغنية «الشيخ إمام» لا يعنى أنها كانت مجرد «شعارات منغمة»، أو أغان باهتة، بلا قدرة فنية، أوعمق إبداعى. على العكس تماما ، فهذا ناقد فنى كبير، وأستاذ بارز لعلوم الموسيقى وآدابها، «أ. فرج العنترى»، يقول: « تكون الأصالة بقدر ما يرتبط اللحن بالأرض وبالتراث، وتتبدى عبقرية «الشيخ إمام» فى بساطة اللحن، وطبيعيته، وصدقه، وعدم تكلفه وافتعاله، إذ يُعطى «الشيخ إمام» لكل كلمة لحنها، ولكل لحن أداءه، فهو ينعى «جيفارا» كما تنعى نساؤنا الأموات، وينط مع «الحته المُلعَب» فى لحنه وأدائه، ويتباسط مع ابن البلد فى «ياعم روّق»(*)... إن «قدرته على التصوير» بالأنغام، على حد وصف الفنان الكبير»عبد الرحمن الخميسى»: «قدرة فائقة، حتى لقد شعرت أن الأنغام ألوان، وبأن «الشيخ إمام» يغمس فيها ريشته وموهبته، ويرسم بها على العود، ومن خلال كلمات شاعره «أحمد فؤاد نجم»، وبالصوت العريض الذى يتدفق من قلب الشيخ، يرسم بها الفكاهة والدمعة والسخرية، ويقينى أنه ليس ل»الشيخ إمام» نظير بين الملحنين المصريين، من حيث قدرته على التصوير الفنى»(*). مضى «الشيخ إمام» إلى بارئه، قبل أن يتنسم عبير الحرية، فيعانق حلم حياته، ثورة شعب مصر على «الأندال» الذين أهانوه، وسرقوا خيراته، وأذاقوه الويل والعذاب. ولقد آن الأوان لأن ترد «مصر الثورة» الجميل لأحد صُنّاع ثورتها ووجدانها. ففيما عدا إطلاق اسمه، واسم رفيق دربه، «أحمد فؤاد نجم»، على أحد الشوارع، وهو أمر مشكور بالقطع، لم يطلق اسميهما على قصر من قصور الثقافة التى تبلغ المئات فى شتى أرجاء الوطن، ولا صدر طابع تذكارى يُخلد ذكراهما وأعمالهما، ولا اهتمت الدولة، بمعاهدها الموسيقية وأوبراها وإذاعتها وتلفزيونها، بحفظ وتنظيم وتعليم وتقديم تراثهما الضخم، وتسجيل مراحل حياتهما وإبداعهما وعرضها فى متحف لائق... إلخ. فهذا «فنان كبير حقاً»، كما قال الأستاذ الكبير»محمود أمين العالم»: «موهبة نادرة، أخشى أن يبقى بيننا هكذا، حديثاً بين أصدقاء، تعليقات فى صحف، لقاء فى دعوات خاصة، تستمع إليه حلقات صغيرة من الناس، ثم يأتى يوم يُسائلنا فيه مجتمعنا بضمير الواجب: ماذا فعلتم بألحان «الشيخ إمام»؟.. لماذا لم تسجلوا أغانيه ؟، لماذا لم توزع وتقدم للناس جميعاً؟، أخشى أن يأتى يوم نقول فيه كان بيننا «سيد درويش» جديد، ولكننا لم نحسن استقباله، ولم نحسن الاحتفال به»(*). ................ * المقتطفات من مجلة «القاهرة»، فى القسم الخاص ب «الشيخ إمام»، العدد (153)، أغسطس 1995.