يلفت الانتباه باستمرار فى شهر رمضان ذلك الكم الهائل من الأعمال الدرامية التى تتسابق محطات التليفزيون على عرضها. ومن بين ألوان الدراما العديدة التى راجت بشكل واضح خلال السنوات القليلة الأخيرة الدراما التاريخية، بعضها يتناول سيرة دعاة وولاة وفاتحين وأيضاً فنانين، فيما يخوض البعض الآخر فى حقب وأحداث تاريخية لا يزال صداها يتردد بيننا إلى اليوم. وإذا كانت الدراما التى تعرض لحياة فرد واحد تثير لغطاً وجدالاً، فما بالنا بالدراما التى تحاكم حقبا ودولا وحركات وزعامات؟. فالتاريخ دائماً موجع، كما أن تناوله مؤلم حتى ولو من خلال الدراما. ولا غرابة فى ذلك، فالتاريخ ليس إلا سياسة وقعت فى الماضي. والسياسة مملوءة بالصراعات والاختلافات وفتح صفحاتها من جديد، حتى لو من خلال أعمال درامية، يمكن أن ينكأ جروحا ويحدث ضجيجاً يؤكد أهمية التزام هذا النوع من الفن بأقصى معايير الصرامة لو أرادت أن تقدم نفسها كمصدر جانبى للمعرفة. ومع أن الدراما التاريخية لها فوائد، إلا أن لها أيضاً مخاطر. هى مفيدة مثلاً عندما تعرض لنماذج تاريخية مبهرة قد يجد الناس فيها القدوة والمثل. وهى مفيدة بشكل خاص فى المجتمعات التى لا يُعرف عنها نهم للقراءة مثل مجتمعاتنا العربية. فبإمكان الدراما التاريخية فى مثل هذه المجتمعات أن تعوض كثيراً من الناس عن نقص ما لديهم من معرفة بالطبع لو التزمت الدقة والتوثيق. لكن الدراما التاريخية كثيراً ما تسببت فى أضرار جسيمة لأنها لا تعرض التاريخ كما جري، وإنما وفقاً لرؤية الكاتب ومرئيات المخرج. فهى لا تقدم الأحداث كما وقعت وإنما كما يتخيلها ويركبها فريق العمل الدرامي. وحتى لو اعتمدت على أرشيف كامل من الوثائق فإنها لا تنقله حرفياً وإنما تضعه فى حبكة تفتح الباب للجدل حول ما تقدمه للناس وما إذا كان يعتبر معرفةً بالتاريخ أم تشويهاً له. والمشكلة فى عالمنا العربى أن كثيرا من الناس، كما يصدق الكلمة المطبوعة، يظن أيضاً أن الدراما التاريخية هى التاريخ وأن رؤية مسلسلاتها تؤهلهم للإدلاء برأيهم فيه. أما التاريخ فمعقد لا يمكن هضمه فى ثلاثين حلقة أو أكثر، وليس من وسيلة للإلمام به إلا البحث المدقق. أما الدراما التاريخية فلا توفر أكثر من معرفة انطباعية مبسطة عن الماضي. وهى أدنى درجات المعرفة، لكن المؤسف أن قطاعاً من الرأى العام يثق فيها ويدلى بموجبها بآراء قاطعة. ولعل من بين ما يشجع الناس على اللجوء إلى الدراما كمصدر للمعرفة بالتاريخ إقبالهم الهزيل على القراءة. فبينما يقرأ الأوروبى 35 كتاباً فى السنة فى المتوسط، فإن كل 80 عربياً يقرأون كتاباً واحداً. وهو ما أتاح للأعمال الدرامية أن تسد فجوة المعرفة التى ولدتها قلة القراءة. ولم لا وكل ألف نسمة فى الكويت مثلاً يملكون 374 جهاز تليفزيون، بينما يملك كل ألف من السكان فى لبنان ومصر 308 و99 جهازاً على التوالي، ما يعنى أن التليفزيون بات هو الجليس والونيس فى غالبية البيوت العربية، وباتت الدراما التاريخية تؤخذ معه على أنها مصدراً رئيسياً للمعرفة. وهنا مكمن الخطر، لأن المعرفة الانطباعية والترفيهية بالتاريخ ليست كافية، بل قد لا تختلف أحياناً عن الجهل التام به. كما أن هذا اللون من الدراما عادةً ما يؤجج خلافات حادة بين القوى الفكرية والسياسية حينما يعتبره البعض تصويراً أميناً للحقيقة، بينما يراه البعض الآخر غشاً وتزويراً. ولأن التاريخ مادة قابلة للاشتعال قد لا تفقد مفعولها التدميري، إلا بعد فترات طويلة، فإن الأعمال الدرامية التى تتناول حقباً بعيدة نسبياً لا تثير نفس ما تثيره الأعمال التى تعرض لأحداث قريبة أو شخصيات لا يزال تأثيرها حاضراً. ومع هذا فإن الدراما فى الحالتين لا تصلح كمصدر للمعرفة. فالتاريخ وإن كان كتاباً مفتوحاً إلا أن ذلك لا يعنى أن كتّاب السيناريو باتوا مؤرخين أو أن روايات التاريخ يمكن أن يحددها مسلسل. صحيح أنه لا يحق لأحد أن ينصب نفسه حكماً على التاريخ، لكن ذلك لا يعنى ترك المعرفة التاريخية رهنا بالخيال الدرامي. فالمسلسلات تبقى فى النهاية تصويراً وليس توثيقاً للحقيقة، تختلط فيها المعلومة بالخيال والرواية الأصلية بالرؤية الإبداعية، ولا يمكن بالتالى أن تؤخذ كمصدر نقى أو رئيسى للمعرفة. لكن المصيبة أنها تؤخذ على هذا النحو فى أحيان ليست قليلة عندما يستشهد بها الناس بشكل غير واع وأحياناً واع وهم يتجادلون مع بعضهم. وهو ما يرجع مرةً أخرى إلى الاستسهال المعرفى المتفشى الذى جعل كثيرين يستبدلون التليفزيون بالكتاب ويتخذون من الدراما التاريخية المعروضة على شاشته مصدراً للمعلومات. ليت الدراما التاريخية توضع فى موضعها الصحيح حتى لا يثور ضدها من يثور وحتى لا يبالغ فى قيمتها من يبالغ. فمن يثور ضدها قد يعطيها بحسن نية حجماً أكبر من حجمها، لأن ثورته تلفت انتباه العوام إليها أكثر ما يحولها إلى مصدر أساسياً لهم للمعرفة. أما من يبالغ فى قيمتها فقد لا يعتبرها فقط مصدراً للمعرفة بل ويجادل بأنها تشكل دافعاً يمكن أن يستنهض الناس ويوقظ الأمم. وتلك مبالغة ومغالطة. فالأمم التى تقدمت فى عصر النهضة مثلاً لم تستفق بفضل المسلسلات الدرامية. ففى هذا العصر لم يكن للمسلسلات الدرامية ولا للتليفزيون وجود. لكن فى مجتمعاتنا العربية ما أسهل المبالغة والمغالطة. وما أسهل أن تتحول الدراما التاريخية من مجرد رؤية فنية للماضى إلى أداة تعوض بالخيال ما لم يتم انجازه فى الحقيقة. إن مجتمعاتنا معذبة. ابتليت بالتفكير الدائم فى التاريخ والعيش باستمرار فى الماضي. ثم تأتى الأعمال الدرامية لتزيدها عذاباً وهوساً. فلو كان التعلق الزائد بالتاريخ خطأ يحجب التفكير فى المستقبل، فإن الاحتجاج بالدراما التاريخية خطيئة تحول دون البحث فى المصادر الأصلية للمعرفة. كلية الاقتصاد والعلوم السياسية جامعة القاهرة