هذا العام جاءتنا الدراما المصرية بعدة مسلسلات تاريخية تنوعت شخصياتها وأحداثها. من شيخ العرب في الصعيد إلي الملكة نازلي في المنفي إلي الإخوان في الاسماعيلية والقاهرة. إلي كليوباترا في الإسكندرية الرومانية إلي سقوط الخلافة. وأضافت الدراما العربية عدة مسلسلات تاريخية أخري. وإذا كان رمضان قد أصبح مع انتشار التليفزيون هو شهر الدراما, فإنه أيضا شهر الدراما التاريخية. فالمشاعر الدينية التي يستثيرها شهر الصيام تدفع الناس صوب التاريخ الذي تسكنه الجذور ويردد صدي الأجداد ويحفظ ملامح الهوية التي تعرضت للكثير من المؤثرات الخارجية. والتاريخ مثل الشعر والأدب مدين بالكثير للفنون التي جاء بها الراديو والتليفزيون. ففي الشعر أصبحت أشهر القصائد هي التي تغني بها المطربون. عرف الناس الكثير من الشعراء وحفظوا بعضا من قصائدهم بسبب الأغاني التي نشرتها الإذاعة مسموعة ومرئية. وعرف الناس الكثير من الأدباء وأعمالهم الأدبية عبر الدراما بأشكالها المختلفة. غير أن قصة التاريخ مع الدراما تختلف شيئا ما عن قصة الشعر مع الأغاني والأدب مع الدراما. فالدراما تدين للتاريخ بوجودها. فالأساطير التي تدور حول الشخصيات القديمة والآلهة في التاريخ اليوناني كانت مصدر إلهام كتاب الدراما في بدايات ظهورها. وحينما ظهر الراديو في مصر وأراد تقديم أعمال درامية لم يجد غير التاريخ يستخلص منه أحداثا وشخصيات تصلح لتلك الأعمال الدرامية. وكانت تمثيليات هارون الرشيد وأبو مسلم الخراساني والحجاج بن يوسف الثقفي أعمالا درامية رائدة في تاريخ الإذاعة المصرية. أما التاريخ فهو مدين للدراما بكافة أشكالها المسرحية والإذاعية والتليفزيونية والسينمائية. فالدراما هي التي نقلت المعرفة بالتاريخ من دوائر الدراسة الضيقة إلي دائرة المعرفة الشعبية الواسعة. والدراما التاريخية هي العامل الأكثر تأثيرا في تشكيل الوعي العام بالتاريخ أكثر من كتابات المؤرخين وربما أكثر من كتب التاريخ المدرسية. فالمعرفة العامة بقائمة طويلة من الشخصيات والأحداث التاريخية التي تمتد من أبطال الأساطير اليونانية مرورا بملوك الطوائف وحتي دراويش الصوفية في أربعينيات القرن الماضي جاءت من الأعمال الدرامية في المسرح والسينما والراديو وأخيرا التليفزيون أكثر من أي مصدر آخر. هذه الأهمية القصوي للدراما التاريخية رشحتها لأن تستخدم علي نطاق واسع في جهود بناء الهوية الوطنية والوعي العام والدعاية السياسية منذ وقت بعيد حتي قبل ظهور الراديو والتليفزيون في مختلف أنحاء العالم. ومشكلة الدراما التاريخية هي أن قوتها تحولت إلي نقطة ضعفها الأساسية. فالانتشار الهائل الذي تحققه الدراما التاريخية للأحداث والشخصيات التي تعالجها بين مختلف الطبقات أصبح يمثل خطرا علي حقائق التاريخ. وأصبحت الإجابة علي سؤال من يكتب التاريخ مهمة صعبة. ففي الدوائر العلمية استقر الأمر علي أن التاريخ هو صناعة المؤرخين. وحتي كتاب الدراما أنفسهم يعتمدون علي كتابات المؤرخين. ولكن كتاب الدراما في أعمالهم يصبحون كتابا للتاريخ ويؤثرون في جموع الناس أكثر من المؤرخين أنفسهم. منذ قرون بعيدة قال أرسطو إن التاريخ يكتب الأحداث كما وقعت ولكن الدراما تكتب الأحداث كما كان ينبغي أن تقع. ومنذ عهد أرسطو والحديث عن العلاقة بين التاريخ والدراما لا يتوقف. البعض لايري فروقا تذكر بين المؤرخين وبين كتاب الدراما. فحتي سنوات القرن الثامن عشر كانت كتابة التاريخ عملا أدبيا في المقام الأول. وحتي نهاية القرن التاسع عشر كان المؤرخون لا يرون أن كتابة التاريخ تنتمي للعلوم الاجتماعية او حتي للعلوم الإنسانية. كان المؤرخون يرون أنفسهم أدباء. فالقصص التي يروونها هي قصص حقيقية. ومع ذلك فإنهم كانوا في النهاية قصاصين مهمتهم هي رواية الأحداث الحقيقية بأكبر قدر من الحيوية والبلاغة الأدبية تماما كما يفعل الروائيون. وخلال سنوات القرن العشرين تطورت أساليب البحث التاريخي وأصبحت كتابة التاريخ علما مستقلا تغيرت فلسفته. فلم تعد مهمة المؤرخ تنحصر في سرد الأحداث سردا روائيا. فالأحداث وحدها لاتصنع التأريخ ولكن مهمة المؤرخ أن يشرح وأن يفسر الفلسفة التي تجمع بين تلك الأحداث. ولكن الدراما أيضا اقتربت من هذا المعني. فالأعمال الدرامية تضع الأحداث في منظور له معني يساعد المشاهدين علي فهم أحداث التاريخ. ولم يعد من الضروي أن تكتسب نفس الأحداث في التاريخ والدراما نفس المعاني. وهنا أصبح الاختلاف حقيقة واقعة بين كتاب الدراما والمؤرخين. فالهدف عند المؤرخ هو سرد الأحداث بأكبر قدر من الدقة. أما كتاب الدراما فالهدف عندهم هو أن يشعر المشاهد من خلال شخصيات الأحداث التاريخية كما لو أنه عايش تلك الأحداث. وهذا الهدف يسمح لكتاب الدراما بالتعديل والتغيير في بعض الأحداث. قد يري البعض أنه من الصعب تجاهل أوجه شبه كثيرة بين كتاب الدراما وكتاب التاريخ. كلاهما يسعي نحو تقديم صورة لفظية بالكلمة أو بالحوار والمناظر لواقع قد انقضي. ومهمة كتاب الدراما أن يقدموا ذلك الواقع بصورة لاتقل واقعية عما يشير إليه المؤرخون. والحس التاريخي مطلوب لكتاب الدراما مثلما هو شرط من شروط عمل المؤرخين. فالروايات التاريخية المقبولة تستخلص من حقائق وأحداث لو قدمت كما وقعت لما كان لها أي معني. وكتاب الدراما عليهم أن يتعلموا من المؤرخين ما سماه كولنجوود بالخيال البناء حيث يتعين علي المؤرخ أن يستخلص معاني متكاملة من أحداث التاريخ التي تصل إليه غير كاملة ومتناثرة. والنقطة المهمة في العمل التاريخي هي أن وصف أي حدث تاريخي سواء وقع بالأمس أو منذ قرون هو في نهاية الأمر هو أحد أعمال الخيال المبني علي الحس التاريخي. ويشارك الصحفيون المؤرخين وكتاب الدراما في كتابة التاريخ. فأول نسخة من التاريخ تظهر علي صفحات الصحف. ونادرا ما تصبح النسخة النهائية. فالروايات الصحفية للتاريخ تخضع فيما بعد لأعمال المؤرخين. ولكن ذلك لايعيب عمل الصحفيين الذين هم كما وصفهم فيليب جراهام ناشر الواشنطون بوست بأنهم' مؤرخون علي عجل' لم تعد القضية صراعا بين المؤرخين وكتاب الدراما علي من يكتب التاريخ. فليس للتاريخ وجه واحد حتي لدي المؤرخين. وحقائق التاريخ ليست كثيرة وليست مؤكدة. ولكن القضية تظل مطروحة بشدة حين يجترئ علي التاريخ من ليس مؤهلا للتعامل معه ومن يفتقد الحس التاريخي ومن يلوي أعناق التاريخ طلبا لأهداف سياسية أو جماهيرية. والحقيقة هي أن الدراما في العالم العربي لا تكتب التاريخ وجموع الناس لا تكترث بالفروق بين مهام المؤرخين ووظيفة كتاب الدراما. والنتيجة أن الغالبية العظمي من الناس تميل إلي إدراك العالم التاريخي كما تصوره الدراما علي أنه الواقع. غير عابئة بحقيقة أنه يختلف عن كثير من الحقائق التي تأتي بها كتابات المؤرخين. فالدراما طاغية وقادرة علي إخضاع التاريخ لمقتضيات العمل الدرامي ومنطقها لا يقبل العكس.