«أحمد القرملاوي» كاتب ومهندس معماري. مواليد القاهرة 1978، درس هندسة التشييد فى الجامعة الأمريكيةبالقاهرة، ثم أكمل فى اسكتلندا. جرب الشعر والرواية، ولكن طفله الأول كان مجموعة قصصية أختار لها عنوان «أول عباس» من يركب الميكروباص، ويسكن فى مدينة نصر من السهل عليه أن يتعرف على هذا النداء.. «أول عباس».. توقف معتاد فى أول شارع عباس العقاد. فى وسط غابات العمارات الضخمة «أو التشييد العشوائي» كما يسميه الكاتب المهندس: يكون من اللازم اختيار شفرات لغوية قصيرة سريعة، للتعامل بين الناس المتدافعين، وسط زحام الميكروباص، وسحابات العادم، ودمدمات قارئ المصحف، والراديو الذى يصدر عنه وشيش متصل، يفتح الرجل السمين اللزج المجاور له فى المقعد فمه فتخرج رائحة البصل والثوم، وهو يحدق فى تفاصيل جسد السيدة الجالسة فى المقعد الذى أمامه. يكاد طفلنا الكاتب الذى أصاب قدمه فى مباراة كرة قدم كان يلعبها فى الشارع أن يفشل فى النزول فى «أول عباس»، وعندما ينجح أخيرا فى الخروج من جحيم الميكروباص يقول لنفسه: «المسكن ليس بعيدا، نصف ساعة من القفز الصامت تفصلنى عن صومعتى الآمنة». هذا قدر ما استطعت أن أقدمه لك من مذاق القصة الأولى التى تحمل اسم المجموعة والتى تأتى بعد الاهداء الكاشف الذى يقول نصه: «إلى الطفل القابع فى جوفي.. روضته فاستعصي، زجرته فتشبث وأدته فنبت نبتا جديدا أعلى صوتا». أعتقد أن ال 14 قصة التى تضمها المجموعة مكتوبة بعقل وروح هذا الطفل الجميل الذكى الذى عرف باصراره على التعبير الدقيق أن يقدم لنا مجموعة قصصية مبشرة بكاتب جديد. هناك نوعان من الاصرار والدأب نعرفهما فى حياتنا الأدبية: الأول اصرار ودأب على الوجود والانتشار، والآخر اصرار ودأب على معاناة فن التعبير، وتحسين نوعية الانتاج الادبى الفني، «والقرملاوي» يتمسك بالنوع الثاني، وينجح فى تحقيق بعض منه. يفرش الكاتب أمامه خريطة تفصيلية لدهشته الطازجة بمشاكل الواقع المرتبك الذى يحيط به. يختار بعناية تفصيلية صغيرة من تعقيدات هذا الواقع، ويعمل فيها بشعوره وعقله لكى يشيد بناء قصصيا قصيرا سريعا. يقدم فى أغلب قصص المجموعة بناء فنيا جديدا لا يتبع نموذجا أو شكلا ثابتا. ينتشر فى المجموعة نوع من الحنين إلى الماضي، الذى ينسحب أمام جيوش الحاضر المزدحم الصاخب، عشوائى الفكر والملامح. ذكريات العلاقات العائلية الحميمة المندثرة أمام مادية وقسوة وعملية علاقات الحاضر. الزواج العرفى المتخفى وراء أزمات السكن وقسوة الأحكام الاجتماعية. هجرة الشباب، فساد أصحاب المال وقسوتهم على الناس وحتى على الطبيعة حلم الفقراء بالتحقق الذى تدهسه سيارات الاغنياء وتكسره مراياهم البلورية، وأردية سهراتهم المزركشة، فيقع البسطاء على أرض بيوتهم الرخامية نازفين بعد أن فقدوا حتى الأحلام، (قصص: المرايا، موعد، محطة الوقود، سطح متأرجح) فى شكل القصة يعمل الكاتب بحرية ولا يقف عند مصطلح أو شكل ثابت مع احتفاظه بالبناء والوضوح الكلاسيكى مع لغة مختارة منتقاة. يجرب الانتقال بين السرد والحوار والتداعى الحر، والعودة إلى الماضى بسرعة ولياقة ملحوظة. (قصص: صورة فوق الأريكة، صندوق الذكريات، نصبة شاي). وأخيرا فلتسمح لى قصة «مصير مفاجئ»، وهى آخر قصص المجموعة فى أن أجردها من ثيابها كى أبرز عظامها بعد أن كان الكاتب قد كساها لغة دافئة متدفقة. «ذهب رجل يصلي. ذهب إلى الجامع مبكرا فجلس فى الصف الأول. صعد الخطيب الى المنبر، كانت نبراته حادة ونظراته إلى الناس نارية غاضبة. أحس الرجل الجالس أنه هو المقصود بكل تهديدات العذاب والجحيم التى يطلقها الخطيب. أحس الرجل بالخوف والندم، الندم على أنه جاء مبكرا وجلس فى الصف الأول. حاول الهرب بحجة الذهاب لتجديد الوضوء، ولكن الخطيب ظل يحاصره بنظرته وبالوعيد. عندما جلس الخطيب يستريح بين الخطبتين، ظل الرجل مرتبكا لا يقدر على القيام مرددا «كان يقصدنى بكل هذا التهديد.. كان يقصدنى أنا بالذات» وعندما بحث عن وجه الخطيب وجده يحاول اخفاءه، عندما تبينه وجده يبكي، ثم فجأة نزل الخطيب وقد تمكنت رجفة واضحة فى ساعديه وساقيه وأتجه مباشرة إلى المصلى الجالس قائلا له فى صوت مرتجف غير الصوت الذى كان يخطب به: «صل بنا أنت.. أنا لست أهلا لها» «فأستدار ذاهلا.. لمواجهة مصيره المفاجئ». لعلى لم أفسد عليك القصة بهذا التجريد فقد حقق فيها المهندس الفنان: أحمد القرملاوى بعضا من الجمال الأدبى الذى وصل اليه فى «أول عباس».