فى الثالث والعشرين من يونيو منذ أربعة وثلاثين عامًا رحل عن عالمنا الشاعر صالح جودت، وهو فى الثامنة والستين من العمر. وكأنما طويت برحيله صفحته الشعرية والأدبية والحياتية، فلم يعد يذكره أحد، بل إن ذكره أصبح مجلبة للسخرية والتندر، وقد أصابنى بعض هذا حين كتبت عنه ذات مرة فى يونيو عام 2000 فى مناسبة ذكراه وصدور أعماله الشعرية، فوجدت من يهزأ بى لأنى تركت الكتابة عن القمم ونزلت إلى مستوى من هم فى السفوح من الشعراء! ولقد كان من سوء حظ صالح جودت أن تمتلئ حياته بمعارك من كل لون. كان أقساها وأشدها تأثيرًا تلك التى شنّها على دعاة الشعر الجديد الشعر الحر واعتبارهم هدّامين ومتنكرين للشعر العربى والثقافة العربية، وكان يطلق على أعدائه ممن صنّفهم على أنهم يساريون اسم «القرامزة». الذين انسلخوا فى رأيه عن الوطنية والدين. ولم يقصّر هؤلاء بدورهم فى الهجوم عليه، واتهامه بالرجعية وسوء الفهم، وافتقاده لحسّ التطور والإيمان بالجديد. وزاد من ضراوة معركته إحساسه بأنه يعبر عن أفكار العقاد وآرائه التى كان يحكم بها زمام لجنة الشعر فى المجلس الأعلى للفنون والآداب حين كان مقررها والمتحكم فى مسيرتها. لكن هجوم العقاد على الشعر الجديد وعلى هؤلاء، كان خاليًا من اللغة العنيفة والاتهامات القاسية التى أطلقها صالح جودت، الذى حوّل معاركه الأدبية إلى معارك سياسية. أما مناسبة هذا الكلام الآن، هو ذكرى رحيله، ولأن كتابًا جديدًا عنه قد صدر من تأليف الأديب والباحث الدؤوب محمد رضوان، الذى هيأته الأقدار لدور شديد الأهمية فى حياتنا الأدبية المعاصرة، هو الاهتمام بجمع آثار عدد من الشعراء والأدباء الذين تعرضوا للإهمال والنسيان، وأصبح هذا الاهتمام لديه رسالة حياة، منذ كان كتابه الأول عن عبقرية زكى مبارك الذى أنجزه وهو لا يزال طالبًا فى كلية دار العلوم عام 1968 وكان هذا الكتاب سببًا فى تعرّفه على صالح جودت الذى ساعده فى نشر الكتاب عام 1974 بعنوان «صفحات مجهولة من حياة زكى مبارك»، وساعده على العمل فى دار الهلال بعد حصوله على ليسانس كلية دار العلوم. اختار الأديب محمد رضوان لكتابه الجديد عن صالح جودت عنوانًا لافتًا هو «قيثارة مصر: صالح جودت»، وأقول كتابه الجديد لأن له كتابًا سابقًا عنه نشر بعد وفاته، صدر فى أغسطس 1977، بعنوان: «صالح جودت: شاعر النيل والنخيل» كتب مقدمته الشاعر السفير أحمد عبد المجيد. وقد اتسعت دائرة اهتمام محمد رضوان بغير صالح جودت من الشعراء فكانت كتبه وكتاباته عن أحمد فتحى والهمشرى وعبد الحميد الديب والشرنوبى وأحمد خميس وغيرهم. وهى كلها كتابات أهمّ ما فيها الحشد الهائل من الوثائق والمعلومات التى توفَر عليها وجمعها على مدار سنوات. كان صالح جودت الذى لا يكاد يذكره الآن أحد واحدًا ممن يملأون الحياة الأدبية، ويشغلون الناس بقلمهم وكتاباتهم ومعاركهم، منذ بزوغ اسمه فى عالم الصحافة فى النصف الثانى من ثلاثينيات القرن العشرين عندما أصدر ديوانه الأول «ديوان صالح جودت» عام 1934، وحتى ديوانه الأخير «الله والنيل والحب» قبل رحيله بعام واحد. وقد كان ومعه أقطاب التيار الرومانسى فى الشعر الذى عرف بتيار جماعة أبولّو من أمثال إبراهيم ناجى وعلى محمود طه ومحمد عبد المعطى الهمشرى ومحمود حسن إسماعيل وأحمد رامى ومختار الوكيل وحسن كامل الصيرفى وغيرهم، يهيئون الأرض بنماذجهم الشعرية المبكرة لمذاق شعرى جديد غير مألوف، ولغة شعرية يلتمع فى ثناياها معجم شعرى يصف المحسوسات بصفات المعنويات، والمعنويات بصفات المحسوسات، ويطلق الخيال إلى نجوم شديدة البعد. لغة تتميز بالأناقة بأشعار الرومانسيين الإنجليز والفرنسيين، من أمثال: كيتس وشيلى ووردزورث وبيرون ولامارتين وألفرد دى موسيه وألفرد دى فينى وغيرهم. وكان صالح جودت من بين ثلة شعراء أبولو أقربهم إلى الروح المصرية والمزاج المصرى فى أسلوب التعبير عن العواطف والمشاعر، واقتناص المفردات المصرية ذات الدلالة المحلية، وهو ما يذكرنا بشاعر مصرى قديم فتن به صالح جودت وكان دائم الإشارة إليه وهو «البهاء زهير» الذى تميز شعره بدرجة عالية من هذه الروح المصرية والطابع المصرى فى الصياغة والتعبير. وفى حديث صالح جودت فى المقدمة الضافية التى كتبها لديوان صديقه أحمد رامى إشارة إلى هذا الدور الشعرى الذى قامت به الحركة الرومانسية، وعن صحبته لناجى وعلى محمود طه والهمشرى فى سنوات الصبا الباكر، فى إشارة إلى التكوينات الأولى والنزعة الشعرية المشتركة، والأفق المغاير الذى كان يتطلع إليه الشعراء الأربعة، يقول صالح جودت: «كانت هذه الصحبة مدرسة جديدة فى الشعر، تتقارب خطوطها كلّ التقارب إلى حدّ أن شعرنا اختلط على الناس فى كثير من الأحيان، فنُسب إلى غير صاحبه، وإلى حدّ أن أحدًا منا نحن الأربعة لم يكن يعرف من التلميذ ومن الأستاذ. فقد كان كل منا يفيد من صحبة الآخرين. غير أن الحياة الصاخبة الممتلئة التى عاشها صالح جودت التهمت كثيرًا من طاقته الإبداعية ومن تفرغه للشعر، كما التهمت معاركه الأدبية والصحفية والسياسية كثيرًا مما تبقى من هذه الطاقة. وحين جذبه صديقه الأثير أحمد رامى إلى طريق كتابة الأغنية، وبخاصة للعديد من الأفلام السينمائية أشهرها شاطئ الغرام وألمظ وعبده الحامولي، كسبته الأغنية العاطفية وخسرته القصيدة المجددة المحلقة التى كان يبدعها ناجى وعلى محمود طه. وفى الإذاعة المصرية عمل صالح جودت عدة سنوات مشرفًا على الأحاديث ومقدمًا للبرامج الشعرية، أشهرها «روائع الشعر»، ومكتشفًا للمواهب الجديدة. ومن خلاله عرف الناس شعر شاعر الكرنك أحمد فتحى قبل أن تشدو به أم كلثوم. ثم أُخرج من الإذاعة مع من أبعدوا عنها عند قيام ثورة 23 يوليو فاتجه إلى الأهرام صحفيًّا وكاتبًا فرئيسًا لتحرير مجلة الراديو والإذاعة فرئيسًا لتحرير «المصور» ورئيسًا لتحرير «الهلال» فنائبًا لرئيس مجلس الإدارة فى دار الهلال. ولقد أصدر صالح جودت ستة دواوين، هي: ديوان صالح جودت (1934)، وليالى الهرم (1957) وأغنيات على النيل (1962) وحكاية قلب (1965) وألحان مصرية (1968) والله والنيل والحب (1975). كما أصدر عدة دراسات أدبية هى بلابل من الشرق، وشاعر الكرنك، وشعراء المجون، وملوك وصعاليك، وناجي: حياته وشعره، والهمشري: حياته وشعره. كما أصدر روايتين هما: الشُبّاك وعودى إلى البيت، وعددًا من المجموعات القصصية هي: فى فندق الله، ووداعًا أيها الليل، وخائفة من السماء، وبنت أفندينا، وكلنا خطايا، وأولاد الحلال، وأساطير وحواديت. وعددًا من كتب الرحلات أبرزها كتابه: قلم طائر. لكنها فى مجموعها تنتسب إلى عالم الكتابة الصحفية أكثر من انتسابها إلى عالم الإبداع القصصى والروائي. ويبقى الوجه الشعرى لصالح جودت هو وجهه الأساسى والأصيل، وهو الوجه الذى عرفه الناس فى آخر تجلياته مع قصيدة «الثلاثية المقدسة» التى شدت بها أم كلثوم. فهل يشفع له هذا كلّه، عند مؤرخى الحياة الأدبية والشعرية ونقادها، حتى يلتفتوا إليه بما يستحقه من تذكر ؟ وهل ينصفه الحاضر بعد أن سكنت نيران المعارك التى أشعلها فى حياته، وظلت تطارده بعد موته. لمزيد من مقالات فاروق شوشة