لقد بلغ متوسط نسبة البطالة الفعلية أكثر من 15% فى دولة يمثل الشباب فيها حوالى 60% من تركيبتها السكانية، تزيد فى صعيد مصر وبنسبة أكبر بين الإناث وحملة المؤهلات المتوسطة والفنية حيث تصل إلى حوالى 40%. أما عن البطالة المقنعة فى الجهاز الإدارى للدولة فقد أفرزت سياسات التوظيف غير المخطط إنطلاقاً من إلتزام الدولة المصرية توظيف الخريجين زيادة غير منطقية، وغير مبررة، فى حجم هذا الجهاز على نحو لا يتناسب البتة مع الهيكل الصحيح للقوى العاملة وعدد السكان ومعدلات النمو ومقتضيات التنمية وحجم الإنتاج، ليتجاوز اليوم ستة ملايين ونصف المليون موظف. وهذا معدل لا نظير له فى أكثر الدول تقدماً، أو تلك التى تتماثل معنا أو تقترب من ظروفنا. ولقد تلاحظ فى السنوات الأخيرة تقلص إلتزام الدولة توظيف الخريجين، ليس فقط لأسباب عملية مفادها التضخم فى جهازها الإدارى بما لا يتناسب مع الإحتياجات الفعلية والإمكانيات المتاحة، بل أيضاً لمحاولة التخلى المتدرج عن هذا الالتزام الذى يتعارض مع طبيعة مرحلة التحول وما تفرضه من مراجعات ومتطلبات وأولويات. غير أن نظام التعليم وسياساته لا يزال لا يبارح مكانه وكأن تحولاً جذرياً، على الأقل فى النظام الإقتصادى للدولة، لم يحدث؛ وكأن حالة جديدة فى أسواق العمل لم تفرض نفسها، وكأن الدولة ما تزال هى الموظف الرئيسى. ويغفل نظام التعليم فى مصر أن القطاع الخاص يشكل اليوم ما يقرب من 70% من إجمالى الناتج القومى، الأمر الذى يستتبع، بالضرورة، تغيرات نوعية مباشرة فى طبيعة ومتطلبات وأولويات سوق العمل، وأن إفرازات التعليم التى كانت صالحة بالأمس لم تعد اليوم كذلك أو حتى قادرة على المنافسة المفتوحة وفق قوانين وضوابط جديدة حاكمة للعرض والطلب على القوى العاملة. ولحين الوصول إلى ذلك ومعالجة الجذور، وهو مسار طويل، لكنه ليس بالقطع مستحيل التحقيق، يمكن لنا إقتراح ما يلى لإمتصاص القدر الأكبر من البطالة وتقليصها إلى حدها المقبول نسبياً فى الأنظمة الرأسمالية : إنشاء صندوق خاص لمواجهة البطالة، يتبع رئيس مجلس الوزراء، يمكن أن نطلق عليه “صندوق التمويل والتشغيل التكافلى”، يصدر بإنشاء وتنظيم الصندوق ولائحته الداخلية قرار من رئيس مجلس الوزراء. يتولى إدارة الصندوق والإشراف عليه مجلس أمناء يصدر بتشكيله، كل ثلاث سنوات، قرار من رئيس مجلس الوزراء. وتحدد موارد الصندوق فيما يلى : حصة، يحددها مجلس الوزراء سنوياً، من مخصصات وموارد الصندوق الإجتماعى للتنمية. 1% إعانة تشغيل يتم فرضها بقانون على الواردات من البضائع والسلع والمواد غير الأساسية أو الغذائية، أو التى تدخل فى تلك الصناعات، أو تلك التى ترتبط مباشرة بالتعليم والبحث العلمى ومتطلبات مقومات الأمن القومى. 25% من إجمالى ما يُسترد من أموال الشعب المصرى التى ثبت، تصالحاً أو بموجب حكم قضائى نهائيى، نهبها أو تبديدها أو إضاعتها وما تزال فى مصر أو أمكن إعادتها من الخارج. 2% من المصروفات المتحصلة من الملتحقين فى مرحلة التعليم العالى والجامعى بمؤسسات التعليم الخاصة. 2% من صافى أرباح الشركات العاملة فى قطاع الإتصالات، على أن تخصم هذه النسبة من الضرائب المستحقة عليها. الهبات والتبرعات والمنح التى تخصص لهذا الغرض، بغير شروط مسبقة، ويقبلها مجلس أمناء الصندوق. أى مخصصات أو موارد أخرى يقررها، أو يعتمدها، مجلس الوزراء بناء على إقتراح مجلس أمناء الصندوق. عوائد إستثمار أموال الصندوق. يتم الصرف من هذا الصندوق لتدريب وإعادة تأهيل وتشغيل الموارد البشرية المصرية فى إطار مشروع قومى على النحو الآتى : تتولى إدارة الصندوق، بتمويل منه وإشرافها، تكليف خبراء ومتخصصين وضع البرامج المناسبة لتدريب وإعادة تأهيل الموارد البشرية بهدف معالجة ما أصابها من قصور أعجزها عن تلبية متطلبات العمل وأخرجها من دائرة المنافسة فى أسواقه، وتشغيلها بالتنسيق مع القطاع الخاص بكل روافده وبمراعاة أولويات متطلباته من القوى العاملة ونوعية المهارات المطلوبة تنافسياً لتلبية إحتياجاته. التخطيط الشامل للإنطلاق بعدد من المشروعات القومية الكبرى الجاذبة للإستثمار وكثيفة العمالة فى مجالات الزراعة والصناعة والتوسع العمرانى والخدمات، نخص منها “تنمية وتعمير شبه جزيرة سيناء”؛ “تنمية وتطوير محور قناة السويس”؛ “ممر التنمية”؛ “الطاقة الجديدة والمتجددة”؛ “تنمية وتطوير الثروة البترولية والمعدنية والتوسع فى الصناعات المرتبطة بها”؛ “تنمية وتطوير الثروة السمكية والصناعات المرتبطة بها”، ومشروعات التوسع فى الرقعة الزراعية شرقاً وغرباً وجنوباً، بما فى ذلك توزيع وتمليك مساحات منها على خريجى الكليات والمعاهد والمدارس الزراعية ومنحهم قروضاً، بدون فوائد، من الصندوق التكافلى يتم سدادها على أقساط ميسرة بعد فترة سماح لا تقل عن خمس سنوات. إن تنفيذ وإستكمال تلك المشروعات، كلها أو معظمها، على نحو متدرج فى خطتين خمسيتين متتابعتين ومتكاملتين، ووفق أولويات تحددها معايير فى مقدمتها كثافة التشغيل وحجم ونوعية المساهمة فى تحريك معدلات النمو وعوائد التنمية وخدمة إعتبارات الأمن القومى، من شأنه إحداث تغيرات وتحولات إيجابية متعددة التأثير والأبعاد من بينها إمتصاص القدر الأكبر من البطالة والوصول بها إلى حدها الأدنى بذات التدرج المخطط له.. التشغيل الذاتى للشباب تشجيع الشباب على الإنخراط فى مشروعات صغيرة تتناسب مع رغباتهم وإستعدادهم ومنحهم قروضاً، بدون فوائد، يقدمها الصندوق التكافلى، بالتنسيق والتكامل مع الصندوق الإجتماعى للتنمية، يتم سدادها على أقساط ميسرة بعد فترة سماح لا تقل عن خمس سنوات. وهكذا، تشكل البطالة ومشكلة التشغيل أحد الأعراض الأهم للظلم الإجتماعى. كما تفرز الأخطار الأشد تهديداً لسلامة المجتمع وسلامه، فضلاً عن كونها مرضاً سرطانياً يمخر فى جسد أى نظام ويؤسس لإنهياره.. به تضيع الكرامة الإنسانية، وتفقد الحرية مقوماتها ومحصناتها، ويصبح الحديث عن “الديمقراطية” خداعاً وتدليساً – ويغيب مع ذلك كله أى معنى أو مضمون للحكم الرشيد.. وبالنظر للإرتباط العضوى بين تلك المشكلة وقضايا قومية أخرى فى مقدمتها التعليم والبحث العلمى وإعداد وتنمية الموارد البشرية، وتنشيط وتحفيز الإقتصاد الوطنى والإنطلاق به إلى آفاق جديدة متقدمة ومواكبة لمعطيات عالم متغير – فإن التعامل هنا لابد أن ينطلق من رؤية وأهداف وإستراتيجيات وسياسات تتصف بالشمولية والتكامل وقادرة على تحديد أولوياتها وآلياتها التنفيذية وتوقيتاتها الزمنية.. ومن هنا تبدأ مسيرة الجمهورية الثالثة لمصر جديدة.. أستاذ القانون الدولى لمزيد من مقالات د.عبد الحافظ الكردى