جاءت لقاءات نورماندى بمناسبة الذكرى السبعين لانزال قوات الحلفاء على الشواطئ الفرنسية فى آخر سنوات الحرب العالمية الثانية لتعيد الأزمة الأوكرانية الى صدارة اهتمامات الزعماء الاوروبيين فى لقاءاتهم العامة والهامشية مع الرئيس فلاديمير بوتين بمشاركة الرئيس الاوكرانى الجديد بيتر بوروشينكو. وعلى الرغم من محاولات كل الأطراف تصوير الأمور وكانها فى سبيل الانفراج، فان الواقع يقول ان القادم لا يزال اكثر تعقيدا. فالقرم التى اعلن بوروشينكو عن انها اوكرانية، وانه فى سبيله الى استعادتها، لاأحد يقول فى موسكو او فى القرم نفسها، أن ذلك يمكن ان يكون قابلا للتنفيذ، بل وللنقاش عموما. كما أن العلاقات بين كييف وجنوب شرق أوكرانيا لا تزال تتسم بالكثير من التوتر، ولا سيما أن ما قاله الرئيس الاوكرانى الجديد حول الموقف من الاوضاع هناك، يظل يحمل فى طياته بذور فرقة وخلافات قد تكون اكثر حدة فى ضوء استمرار المعارك والمواجهات المسلحة بين القوات الحكومية والمسلحين من انصار الاستقلال والنظام الفيدرالي. وكان بوروشينكو حاول فى لقائه القصير مع الرئيس بوتين بحضور الرئيس الفرنسى فرانسوا هولاند والمستشارة الالمانية انجيلا ميركل، ايجاز مطالب بلاده فى استعادة القرم، وضرورة تدخل روسيا من اجل التأثير على جنوب شرق اوكرانيا للتراجع عن مخططات الانفصال، وهو ما رد عليه الرئيس الروسى بقوله ان «بلاده ليست طرفا فى الازمة الاوكرانية». ورغم ان بوروشينكو عاد ليعلن تمسكه بالقرم فى خطابه الذى ألقاه فى احتفالات مجلس الرادا (البرلمان) بمراسم تنصيبه بحضور رؤساء بلدان وحكومات وممثلى ما يقرب ما يزيد عن 50 دولة ، فان احدا فى موسكو لم يعلق على مثل هذه التصريحات على اعتبار أن موسكو حسمت امرها قبل ذلك بكثير، واعلنت ان التفكير فى اعادة القرم «جريمة ترقى إلى حد الخيانة العظمى». وكان بوتين استبق زيارته لفرنسا بالاجابة عن الموقف من هذه القضية خلال حديثه الى اثنين من الصحفيين الفرنسيين بقوله أن روسيا استجابت لرغبة اهل القرم ولنتيجة الاستفتاء حول هذه القضية الذى جرى حول الانفصال عن اوكرانيا والانضمام إلى روسيا، فى اطار حق تقرير المصير حسبما تنص المادة الاولى من ميثاق الاممالمتحدة. بوتين قال ايضا ان موسكو لم تكن لتنتظر ضم هذه المناطق وهى الأراضى الروسية الاصل الى احلاف عسكرية اجنبية قد تعود لتهديد امن روسيا. أما عن ردود أفعال اصحاب الشان فى القرم فقد اوجزها فلاديمير قسطنطينوف رئيس مجلس الدولة لجمهورية القرم يوم السبت الماضى حين وصف تصريحات بوروشينكو حول عودة القرم إلى أوكرانيا بانها «هراء ومحض خيال». اما القائم بأعمال رئيس جمهورية القرم سيرجى أكسيونوف فقد اشار الى ان «القرم لن تكون أوكرانية أبدا».واضاف ان «ما يقوله هؤلاء السياسيون هو بمثابة تطفل على مواضيع هامشية، فلا احد يستطيع حملنا، بالرغم من ارادتنا، على الإنضمام إلى دولة اخرى.. هذا لن يحدث أبدا».ومضى ليقول :»انه سيجرى فى الايام القريبة إصدار التشريعات اللازمة لتقنين وجود قوات الدفاع الذاتى فى الجمهورية.وفى حالة الاعتداء على وحدة أراضى روسيا الفيدرالية فان هذه القوات ستكون على أهبة الاستعداد للدفاع عن القرم». ومن اللافت ان الرئيس الاوكرانى حرص فى خطابه الذى القاه فى حفل تنصيبه على ان يتوجه الى سكان جنوب شرق اوكرانيا باللغة الروسية مؤكدا انه سوف يقوم بزيارة منطقة الدونباس فى شرق اوكرانيا فى القريب العاجل، بينما أشار إلى حق هذه المناطق فى استخدام اللغة الروسية إلى جانب الاعلان عن عزمه على تطبيق نظام اللامركزية، فى محاولة لتهدئة الاجواء. غير ان ما قاله بوروشينكو باللغة الأوكرانية كان على خلاف تصريحاته بالروسية، حيث اكد ما يمكن تسميته بثوابت سياساته الجديدة وفى مقدمتها خطته لاعادة القرم وتاكيد ان اوكرانيا لا بد أن تبقى دولة موحدة وان اللغة الاوكرانية ستكون اللغة الرسمية الوحيدة فى البلاد، بما يعنى عمليا رفض كل مطالب جنوب شرق اوكرانيا حول اقرار النظام الفيدرالى واعلان اللغة الروسية كلغة رسمية ثانية فى اوكرانيا. وفى محاولة للتهدئة وابداء حسن النوايا أعلن بوروشينكو العفو العام وعدم الملاحقة الجنائية للانفصاليين شريطة ان يكونوا غير متورطين فى جرائم دم وتمويل العمليات الارهابية. وبهذا الصدد اتهم الرئيس الاوكرانى الجديد سلفه فيكتور يانوكوفيتش بالفساد ونهب ثروات الدولة، والتورط فى تمويل الارهاب. كما وعد بسرعة اجراء الانتخابات البرلمانية المبكرة وهو ما ينذر بالكثير من الانشقاقات الداخلية فى ضوء بنود دستور 2004 الذى اعادته «ثورات الميدان» ويقضى بسحب الكثير من صلاحيات الرئيس لصالح رئيس الحكومة الذى تعينه الاغلبية فى البرلمان. اما عن ردود الافعال تجاه هذا الخطاب فقد سارع فاليرى بولوتوف رئيس «جمهورية لوغانسك الشعبية» التى اعلنت استقلالها من جانب واحد فى شرق اوكرانيا بالرد على تصريحات بوروشينكو بقوله: «إذا كانت السلطات الاوكرانية فى كييف تعتبرنا جميعا إرهابيين، فمن العبث أن يتحدث شعبنا معهم».ونقلت عنه وكالة أنباء «ايتار تاس» قوله: «فيما يتعلق بجمهوريتنا، فنحن لا تربطنا أى علاقات دبلوماسية مع أوكرانيا، وأن كل ما أستطيع قوله أننا ندافع عن أنفسنا ضد الجيش الأوكرانى»، فيما أكد انهم اعلنوا غير مرة، أن أى محادثات يمكن إجراؤها فقط بعد أن تغادر قوات الغزاة أراضينا». وكان بوروشينكو، حرص ايضا على تاكيد توجهات اوكرانيا التى وصفها بالاوروبية فيما اعلن عن انه سيوقع فى القريب العاجل اتفاقية الشراكة الاستراتيجية مع الاتحاد الاوروبى وهى الاتفاقية التى رفض توقيعها سلفه يانوكوفيتش وكانت السبب المباشر فى اندلاع نيران الازمة الاوكرانية فى نهاية العام الماضي. كما سارع الرئيس الاوكرانى الجديد الى عقد اجتماعا ثلاثيا حضره سفير روسيا فى كييف ونظيره الاوكرانى فى المانيا مع موفدة الامين العام لمنظمة الامن والتعاون الاوروبى لبحث السبل اللازمة لوقف اطلاق النار مؤكدا ان الاجتماع سيتواصل يوميا حتى التوصل الى تحقيق هذا الهدف قبل نهاية الاسبوع الجارى بموجب ما توصل اليه من اتفاق مع بوتين فى نورماندى بحضور الرئيس الفرنسى والمستشارة الالمانية. ويبقى موضوع احتمالات الانضمام الى حلف الناتو التى نعتقد أن روسيا ستبذل قصارى جهدها للحيلولة دون تحقيقها. وكان الرئيس الامريكى باراك أوباما وعد كييف بتكثيف التعاون بينها وبين الناتو ودعم الرئيس الجديد فى مجال الأمن، وهو ما سارع اندريس راسموسين الأمين العام للحلف الى تلقفه معلنا فى بروكسل عن ان الناتو سوف يدعم اصلاحات اوكرانيا فى مجال الدفاع والامن. واذا اضفنا الى ذلك ما قاله أوباما حول القيام بخطوات مماثلة مع بلدان شرق أوروبا بما فيها عدد من بلدان الفضاء السوفيتى السابق ومنها الى جانب اوكرانيا كل من جورجيا ومولدوفا، والاتفاق حول اجراء مناورات مشتركة ، فان هناك ما يشير الى ان روسيا صارت مدعوة اكثر من ذى قبل الى سرعة اتخاذ الاجراءات للحيلولة دون اهتزاز منظومتها الدفاعية، وهو ما لابد ان يمس سيادة ووحدة اراضى اوكرانيا مثلما سبق واسفرت عنه الحرب مع جورجيا فى اغسطس 2008. وذلك ما يظل مطروحا ضمن جدول اعمال المرحلة، دون اغفال دروس الماضى غير البعيد حين فرض الاتحاد السوفيتى على فنلندا وحلف الناتو فى اعقاب الحرب العالمية الثانية، الالتزام بعدم الانضمام الى هذا الحلف وقبول التنازل عن جزء من اراضيها مقابل ضمان امنها واستقرارها فيما بقى لها من اراض مجاورة للاتحاد السوفيتى!.