تسليم الكتب للطلاب في اليوم الأول من العام الدراسي الجديد    هبوط أسعار الذهب اليوم السبت 21 سبتمبر 2024.. مفاجأة سارة    بشرى سارة.. وزير الإسكان: تخفيض 50% من رسوم التنازل عن الوحدات والأراضي    وزير الإسكان: تخفيض 50% من رسوم التنازل عن الوحدات والأراضي بالمدن الجديدة    العاهل الأردني: يجب التوصل لوقف إطلاق النار دائم في غزة    مسار صعب يخوضه رئيس الوزراء الفرنسي .. تحديات بانتظار الحكومة الجديدة    أستاذ علوم سياسية: توسيع الحرب مع حزب الله يعرض تل أبيب لخطر القصف    تشكيل ليفربول المتوقع أمام بورنموث.. صلاح يقود الهجوم    الزمالك يواجه فرق الشباب وديًا استعدادًا لموقعة السوبر الأفريقي    «بعد حبسه».. بلاغ جديد للنائب العام ضد الشيخ صلاح التيجاني يتهمه بازدراء الدين    الحالة المرورية بالقاهرة الكبري.. سيولة بشوارع وميادين القاهرة والجيزة    زاهي حواس: حركة الأفروسنتريك تهدف إلى إثارة البلبلة لنشر معلومة زائفة وكاذبة    «الصحة» تعلن استعداداتها للتأمين الطبي للمنشآت التعليمية تزامنًا مع بدء العام الدراسي الجديد    توزيع الحلوى والورود على الطلاب.. بدء الدراسة بحضور الصفوف الأولى بكفر الشيخ (صور)    بإجراءات جديدة.. المدارس تستقبل الطلاب في أول أيام العام الدراسي (تفاصيل)    الولاء والانتماء والمشروعات القومية.. أول حصة في العام الدراسي الجديد    مسؤولون أمريكيون: البيت الأبيض يتوقع توسع القتال بين حزب الله وإسرائيل    مجلس الأمن يحذر من التصعيد ويدعو إلى ضبط النفس بلبنان    بدء التصويت في الانتخابات الرئاسية في سريلانكا    بوتين يشكل لجنة لإمداد الجيش الروسي بالمتعاقدين    ب«العمة والجلباب».. «المعاهد الأزهرية» تستقبل طلابها في أول أيام الدراسة بقنا (صور)    تقلبات أسعار الذهب في مصر: تقرير شامل لأسعار اليوم السبت 21 سبتمبر 2024    اليوم.. نهائي بطولة باريس للاسكواش ومصر تسيطر على لقبي الرجال والسيدات    ترتيب الدوري الإنجليزي الممتاز قبل الجولة الخامسة    أسعار الفاكهة في سوق العبور السبت 21 سبتمبر    أسعار الأسماك اليوم السبت 21 سبتمبر في سوق العبور    "مدرسة صفا مدرسة انتباه".. انطلاق العام الدراسي الجديد في بورسعيد - صور    استشاري نفسي: نشعر بالسعادة في فصل الخريف لبطء الحياة بعودة الروتين    انخفاض جديد في درجات الحرارة.. الأرصاد تزف بشرى سارة لمحبي الشتاء    استقرار أسعار اللحوم الحمراء اليوم السبت 21 سبتمبر    السياحة تشارك في الدورة ال8 للملتقى الدولي لفنون ذوي القدرات الخاصة    هاني فرحات وأنغام يبهران الجمهور البحريني في ليلة رومانسية رفعت شعار كامل العدد    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم السبت 21-9-2024    ما حكم تلف السلعة بعد تمام البيع وتركها أمانة عند البائع؟.. الإفتاء تجيب    أسعار الاسماك والمأكولات البحرية اليوم في سوق المنيب بالجيزة.. «البلطي» بكام؟    وزير الخارجية: مصر تدعم جهود الحكومة الصومالية الفيدرالية الرامية لتحقيق الأمن ومكافحة الإرهاب    «عاشور»: ارتفاع عدد الطلاب بالجامعات والمعاهد التكنولوجية    استكمال محاكمة محاسبة في بنك لاتهامها باختلاس 2 مليون جنيه    احتجزه في الحمام وضربه بالقلم.. القصة الكاملة لاعتداء نجل محمد رمضان على طفل    ريم البارودي تعلن انسحابها من مسلسل «جوما» بطولة ميرفت أمين    عاجل.. فيفا يعلن منافسة الأهلي على 3 بطولات قارية في كأس إنتركونتيننتال    ضبط 12شخصا من بينهم 3 مصابين في مشاجرتين بالبلينا وجهينة بسوهاج    وفاة والدة اللواء محمود توفيق وزير الداخلية    رياضة ½ الليل| مواعيد الإنتركونتينتال.. فوز الزمالك.. تصنيف القطبين.. وإيهاب جلال الغائب الحاضر    مريم متسابقة ب«كاستنج»: زوجي دعمني للسفر إلى القاهرة لتحقيق حلمي في التمثيل    بسمة وهبة تحتفل بزفاف نجلها في إيطاليا (فيديو)    موعد إجازة 6 أكتوبر 2024 للموظفين والمدارس (9 أيام عطلات رسمية الشهر المقبل)    تحرش بهما أثناء دروس دينية، أقوال ضحيتين جديدتين ل صلاح التيجاني أمام النيابة    "ألا بذكر الله تطمئن القلوب".. أذكار تصفي الذهن وتحسن الحالة النفسية    «الإفتاء» توضح كيفية التخلص من الوسواس أثناء أداء الصلاة    عبد المنعم على دكة البدلاء| نيس يحقق فوزا كاسحًا على سانت إيتيان ب8 أهداف نظيفة    بدائل متاحة «على أد الإيد»| «ساندوتش المدرسة».. بسعر أقل وفائدة أكثر    ضائقة مادية.. توقعات برج الحمل اليوم 21 سبتمبر 2024    مستشفى قنا العام تسجل "صفر" فى قوائم انتظار القسطرة القلبية لأول مرة    عمرو أديب يطالب الحكومة بالكشف عن أسباب المرض الغامض في أسوان    جوميز: الأداء تحسن أمام الشرطة.. وأثق في لاعبي الزمالك قبل السوبر الأفريقي    أكثر شيوعًا لدى كبار السن، أسباب وأعراض إعتام عدسة العين    آية الكرسي: درع الحماية اليومي وفضل قراءتها في الصباح والمساء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



معروف الرصافى
1945-1835
نشر في الأهرام اليومي يوم 06 - 06 - 2014

معروف الرصافى هو شاعر عراقى كبير، ملأ الدنيا وشغلها فى زمانه. وكان، إلى جانب شهرته كشاعر،
أديباً وناقداً وباحثاً فى تاريخ الأدب. وكانت له آراؤه وسجالاته مع عدد من كبار الأدباء العرب وفى مقدمتهم طه حسين. لكنه كان، فى الوقت عينه، شخصية سياسية مرموقة. وكان صاحب فكر ورأى فى شئون الكون والحياة والمجتمع. وقد يكون هذا الجانب من شخصيته هو الأبرز والأكثر إثارة للجدل. ذلك أن النقاد اختلفوا فى تقييم شعره، رغم اعترافهم بأنه كان شاعراً كبيراً. لكن الأساسى فى شخصيته هو التعدد فى جوانبها التى تشابكت وتناقضت فى سيرته وخلقت له المتاعب. وكان الشعر، بالنسبة إليه، وسيلته الأرحب إلى إعلان مواقفه السياسية ومواقفه فى كل الشؤون الأخرى التى شغلته.
ولد الرصافى فى عام 1875 فى بغداد، فى عهد السلطان العثمانى عبد العزيز. وكان أبوه عريفاً فى الجيش العثماني. وهو كردى الأصل من عشيرة الجبارة أو الجبارية فى محافظة كركوك. دخل فى سلك الدرك الذى كان يتولى المحافظة على الأمن خارج المدن. لذلك كان كثير الأسفار. ولم يكن ابنه معروف يراه إلا لماماً. فعنيت الوالدة برعاية الإبن. ولم تلد سواه. فتعلقت به وتعلق بها.
واظب معروف على الذهاب إلى الكتَّاب. فحفظ القرآن وتعلم مبادئ الكتابة. ثم انتقل إلى المرحلة الإبتدائية من دراسته. لكنه تركها بعد ثلاث سنوات، وانتسب إلى إحدى المدارس الدينية. ثم التحق بحلقة دراسية كان يقودها الشيخ محمود الألوسي. وتلقى على هذا الشيخ علوم الدين والفقه وعلوماً أخرى كاللغة والمنطق. وظل يتابع الدراسة على أستاذه الألوسى على امتداد اثنتى عشرة سنة. ومارس نظم الشعر ابتداءً من تلك المرحلة من شبابه. انتقل بعد ذلك إلى التدريس فى المدارس الأولية. وظل يتدرج فى مهنة التعليم حتى أصبح مدرساً فى المدارس الثانوية. وكان لا يزال يرتدى العمامة البيضاء والجبة ويرسل لحيته. وظل يمارس التدريس فى المدراس الثانوية حتى عام 1908، العام الذى أعلن فيه الدستور الثانى للسلطنة العثمانية على يد "جمعية الإتحاد والترقي". وكان الرصافى فى تلك الفترة قد أصبح شاعراً معروفاً فى العراق، وفى البلدان العربية. وكان ينشر قصائده فى المجلات العربية المعروفة، ومنها مجلات "المقتبس" و"المؤيد" و"المقتطف" و"الرسالة" و"العرفان". وأخذ النقاد يهتمون به كظاهرة جديدة فى الشعر السياسى تحديداً. إذ كانت قصائده منذ البداية تتناول قضايا سياسية. وكان من بين قصائده تلك قصيدته التى حيّا فيها الحدث السياسى العثمانى المتمثل بإعلان الدستور الجديد. ومعروف أن هذا الحدث التاريخى كان قد لقى استقبالاً كبيراً فى الأوساط السياسية جميعها فى السلطنة العثمانية بمكوناتها القومية المختلفة. ورحبت به القوى العربية التى رأت فيه أملاً بموقف جديد يعطى للعرب بعضاً من حقوقهم. ولم يمض وقت قصير حتى أنشأت "جمعية الإتحاد والترقي" جريدة فى بغداد باللغتين العربية والتركية أعطيت اسم "بغداد". واختير الرصافى لمنصب رئيس التحريرفيها . وكان قد خلع العمامة والجبة واللحية وصار مدنياً.
واصل الرصافى عمله الصحافى والأدبى شعراً ونقداً أدبياً وأبحاثاً ومحاضرات. وواصل نشاطه السياسى مستخدماً سلاح النقد للحكومات المتتابعة ولسياساتها. وكان من أوائل الذين نادوا بخلع السلطان عبد الحميد. وكان من أوائل من نادوا بالجمهورية. وهو ما عبر عنه فى إحدى قصائده التى يقول فيها:
كيف القرار على أمور حكومة حادت بهن عن الطريق الأمثل
فى الملك تفعل من فظائع جورها ما لم تقل، وتقول ما لم تفعل
أبت السياسة أن تدوم حكومة خصّت برأى مقدس لم يُسأل
يا أمة رقدت فطال رقادها هبّي، وفى أمر الملوك تأملي
إن الحكومة وهى جمهورية كشفت عماية قلب كل مضلل
لكن نقده للسلطات لم يؤثر على علاقاته ببعض أركانها، لا سيما فى "جمعية الإتحاد والترقي"، حتى بعد أن نكثت بوعودها فى إعطاء العرب حقوقهم. إذ هى مارست عليهم، بعكس ما وعدت، عملية التتريك المعروفة. الأمر الذى أحدث طلاقاً كاملاً بينها وبين الجمعيات العربية التى كانت تحمل فى مواقفها القضية العربية، حتى ولو لم تكن قد بلغت حد المطالبة بالإستقلال عن السلطنة. لكن تلك الحركة العربية سرعان ما اتخذت مع الوقت طابعاً أكثر وضوحاً، تمثل فى المؤتمر العربى الأول الذى عقد فى باريس فى عام 1913، وأعلن الطلاق شبه الكامل بين العرب وبين العثمانيين. غير أن الرصافى الذى كان على علاقة حميمة مع تلك الحركة العربية المطالبة بالحقوق العربية داخل السلطنة العثمانية، سرعان ما اتخذ موقفاً سلبياً منها بعد مؤتمر باريس. وناهضها واتهمها بالعمالة للمستعمرين الفرنسيين والإنجليز. واتخذ الموقف ذاته من ثورة أمير مكة الشريف حسين. وكان فى موقفه ذاك شديد الإلتباس فى التناقض بين انتمائه إلى الحركة المطالبة بالإستقلال، وبين بقائه أسير العلاقة مع السلطة العثمانية. إلا أنه حين قامت ثورة العشرين فى العراق ضد الإنجليز، الذين كانوا قد احتلوا هذا البلد العربى فى عام 1917، قبيل نهاية الحرب العالمية الأولى وانحلال الأمبراطورية العثمانية، لم يتأخر فى الإنضمام إليها وصار واحداً من شعرائها. وكان بذلك يمارس موقفه المعلن والدائم ضد الإنجليز. وهو الموقف الذى استمر عليه على امتداد أعوام حياته. واتخذ، استناداً إلى موقفه ذاك، منذ البداية موقفاً معارضاً للملك فيصل الأول، الذى كان قد نصبه الإنجليز ملكاً على العراق فى عام 1921.
تنقل الرصافى فى حياته السياسية، فى المرحلة السابقة على انهيار السلطنة العثمانية، بين بغداد والأستانة. كما تنقل فى المناصب السياسية والصحافية. فدخل النيابة. وعمل فى صحف عديدة. لكن شعره ظل وسيلته المفضلة لإبداء آرائه ومواقفه من مختلف الشؤون السياسية والإجتماعية والفكرية. وكان ذلك شأنه فى الفترة التى أعقبت تأسيس العراق الجديد، بعد سقوط الإمبراطورية العثمانية وتولى فيصل الملك فى العراق فى ظل الإحتلال الإنجليزي. دخل مجلس النواب أكثر من مرة. كما تنقل فى التدريس وفى العمل الصحفي، من مكان إلى آخر، ومن حالة إلى أخرى. وتنقل فى البلدان العربية بين دمشق وبيروت والقدس. وكانت تسبقه إلى كل تلك الأماكن قصائده التى كانت تحمل ثورته التى توزعت فى اتجاهات مختلفة. وظلت تلك القصائد فى جميع الأحوال معادية للإنجليز، ومناهضة للملك فيصل، ومطالبة بالتغيير. وقد وصل به الأمر فى بعض قصائده، دفاعاً عن الفقراء ونقداً لأهل السلطة، إلى الدعوة لاعتناق البلشفية:
يا قوم خلوا الفاشية إنها فى السائسين فظاظة وتعجرف
للإنجليز مطامع ببلادكم لا تنتهى إلا بأن تتبلشفوا
ويقول فى قصيدة أخرى : إنما الحق مذهب الإشتراكية فيما يختص بالأموال
مذهب قد نجا إليه أبو ذر قديماً فى غابر الأجيال
وفى البيت الأول "لحن"، أى خلل فى الوزن، برز فى أبيات أخرى له فى أكثر من قصيدة من قصائده. ولا أدرى إذا كان ذلك خطأ من الرصافى أم من الذين نقلوا شعره. وهو ما لا أستطيع أن أجيب عنه.
ولأن الرصافى كان ثائراً ومتمرداً فقد كانت سيرته تثير الكثير من الأسئلة حول حقيقة مواقفه، وحقيقة ما كان يريده فى حياته. ويتساءل بعض الدارسين لسيرته عما إذا كان قد سعى للوصول إلى منصب وزارى لم يوفق فى الحصول عليه، أم أنه كان فى الأساس مجرد ثائر ضد أوضاع سياسية واجتماعية وضد تقاليد كانت تشكل بالنسبة إليه مظهراً من مظاهر التخلف الذى لم تشف منه البلدان العربية. لكن هذه التساؤلات تبقى ثانوية فى نظرى إذا ما نحن قرأنا مجموع شعره، وقرأنا فى هذا الشعر عناصر الثورة والتمرد، وإذا ما نحن قرأنا بعض كتاباته التى وصل فيها إلى حد التناقض مع السائد من الأفكار والخرافات كانت تلصق بالدين. وقد أثارت تلك الكتابات والقصائد حملة شعواء عليه من قبل بعض رجال الدين الذين اتهموه بالكفر والإلحاد. وقد اضطر الرصافى إلى استخدام كل الوسائل لإنقاذ نفسه من تلك التهم ومن تلك الحملة الشعواء عليه. وساعده فى ذلك عدد من أصدقائه من ذوى النفوذ فى العراق.
وتشير بعض نماذج من قصائده إلى فلسفته وإلى حيرته وشكوكه وإلى دعوته أبناء أمته للنهوض من كبوتهم وللخروج من تقاليدهم وللذهاب بحرية إلى المستقبل. وهذه بعض نثرات من شعره.
يقول فى إحدى قصائده:
من أين من أين يا ابتدائى ثم إلى أين يا انتهائي؟
أمن فناء إلى وجود ومن وجود إلى فناء؟
أم من وجود له اختفاء إلى وجود بلا اختفاء؟
خرجت من ظلمة لأخرى فما أمامى وما ورائي؟
ما زلت من حيرة بأمري معانق اليأس والرجاء
على أن للرصافي، إلى جانب شعره وأبحاثه الأدبية التى قدمها فى محاضراته وخلال تدريسه الأدب وتاريخه، أبحاث فكرية واجتماعية وخواطر ذات أهمية كبيرة. وقد يكون من أهم كتبه الذى ظل حتى مطالع الألفية الثالثة مخطوطاً هو كتابه الذى يحمل عنوان "الشخصية المحمدية". وهو كتاب يدرس فيه الرصافى شخصية الرسول العربى كإنسان، متجاوزاً فى ذلك صفته النبوية، معتمداً فى دراسته للنبى على ما جاء فى القرآن: " .. وما أنا إلا بشر مثلكم يوحى إليّ". وقد بنى الرصافى على ذلك النص القرآنى حقه فى أن يقرأ الملامح الخاصة لشخصية النبى كإنسان مثل سائر الناس يتميز عنهم بعبقريته الفذة وبأنه صاحب رسالة دينية نبوية، أوحى له الله بها وأمره بأن يكون رسوله إلى الناس مبشراً بالدين الحنيف.
أما كتابه المهم الآخر فهو "خواطر وأفكار" الذى يتبنى فيه آراءاً ومواقف وتأملات متنوعة فى قضايا مختلفة. منها ما هو ساذج وعفوى ومنها ما هو عميق فى الفكر. وبعضها يتصل بأحداث تاريخية. ومن الأحداث التاريخية التى يتوقف عندها واحدة تتعلق بأصول "الآذان" عند المسلمين وبالتطور الذى لحق بالآذان مضموناً وشكلاً وأداء فى صيغة إضافات من هنا ومن هناك بحسب الفرق الإسلامية. ومنها ما يتعلق بمقتل الحسين بن عليّ فى كربلاء. إذ هو يروى أصل القضية معتبراً إياها واحدة من الفتن التى أصابت الإسلام فى مراحله المختلفة. لكنه يقول بأن للفرس دوراً فى إعادة إحياء عاشوراء بعد أن توقف استذكارها ما يزيد عن ثلاثة قرون. ويتهم بذلك الفرس فى إذكاء الفتنة داخل الإسلام. لكن أهم ما فى هذه الخواطر والأفكار الفصل الأخير منها الذى يحمل عنوان "الإشتراكية فى الإسلام". يقول فى مطلع هذا الفصل: " لو افتكر الإنسان حراً لتجلت له الحقيقة بوجهها الأغر البهيج. أما إذا قيد فكره بأقوال الناس وتقاليدهم فلا يخرج فى افتكاره من ظلمة إلا إلى أخرى. وقد تكون الحقيقة أمام عينيه ظاهرة واضحة إلا أنه يراها لغشاوة فى بصره من تلك التقاليد. فحرية الفكر هى العامل الوحيد الذى ينتشل المرء من هوة الضلال إلى ذروة الحق والهدى. إذا نظر المسلم الحر الفكر فى الإسلام رأى فيه أموراً تنطبق تماماً على مبدأ الإشتراكية وتماشيه جنباً إلى جنب. منها أنه جعل للفقراء حقاً فى أموال الأغنياء. إذ فرض على هؤلاء أن يخرجوا فى كل عام من أموالهم مقداراًَ معلوماً يدفعونه إلى الفقراء وذلك هو الفرض المسمى بالزكاة. ثم أنه لم يترك ذلك لرحمة الأغنياء وعطفهم بل جعل ولى الأمر وهو رسول الله أو الخليفة من بعده مكلفاً بأخذ هذا المال منهم ورده إلى الفقراء. إذ قال فى سورة التوبة «خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها».
معروف الرصافي، هذا الشاعر والسياسى والمفكر الذى ملأ الدنيا وشغل الناس فى زمانه، والذى أمضى حياته فى التنقل فى المواقف وفى المعارك وفى الوظائف وفى المهمات، قد وصل فى الأعوام الأخيرة من حياته إلى العزلة والإنزواء والفقر. وكان قد بدأ يمارس المجون إلى أقصى الحدود بعد أن طلق زوجته التركية. وحين غادر الحياة فى عام 1945 تذكره الأدباء والشعراء وقادة الرأى والسياسيون. واحتفلوا به وكرموا ذكراه. وترك بعد وفاته تراثاً ضخماً من الشعر والفكر والسيرة سيظل ينهل منها كل من كان حريصاً من العرب على الربط الصحيح بين ماضى تاريخنا وبين حاضرنا ومستقبلنا. وخص الرصافى أصدقاءه بوصية متواضعة نثبت فيما يلى نصها: "أراهم يهيجون عليّ العوام باسم الدين، ولا أظنهم يتركوننى حتى يعدمونى الحياة وليس لى من ألتجئ إليه سوى الله، وكفى بالله حافظاً وحسيباً. وليس لى من الأقارب من أعهد إليهم بوصيتى سوى معارفى من الأصدقاء الأحرار من أهل البلاد. فلذا أكتب هذا إليهم عسى أن يقوموا بتنفيذه ولهم من الله الأجر. كل ما كتبت من نظم ونثر لم أجعل هدفى منه منفعتى الشخصية، وإنما قصدت به منفعة المجتمع الذى عشت فيه، والقوم الذين أنا منهم، ونشأت بينهم. فلذا لم أوفق إلى شيء فى حياتى يسمى بالرفاهية والسعادة فى الحياة. لا أملك سوى فراشى الذى أنام فيه، وثيابى التى ألبسها. وكل ما عدا ذلك من الأثاث الحقير الذى فى مسكنى ليس لي. بل هو مال أهله الذين يساكنوني. كل من اعتدى عليّ فى حياتى فهو فى حل مني. وإن كان هناك من اعتديت عليه فهو بالخيار إن شاء عفا عني. وإلا قضى بينى وبينه الله الذى هو أحكم الحاكمين. أنا – ولله الحمد – مسلم، مؤمن بالله وبرسوله محمد بن عبد الله إيماناً صادقاً لا أرائى فيه ولا أداجل. إلا إنى خالفت المسلمين فيما أراهم عليه من أمور يرونها من الدين، وليست هى منه إلا بمنزلة القشور من اللباب. ولا يهمنى من الدين إلا جوهره الخالص، وغايته المطلوبة التى هى الوصول إلى شيء من السعادة فى الحياة الدنيوية الإجتماعية، والحياة الأخروية ما أمكن الوصول إليه من ذلك بترك الشرور وعمل الصالحات. وكل ما عدا ذلك من أمور الدين فهى وسيلة إليه، وواسطة له ليس إلا. بما أن "عبد بن صالح" الذى هو معاونى على العيش فى مسكنى كنت أنا السبب فى زواجه، وقد ولد له بنات صغار، وليس له من أسباب المعيشة والكسب ما يجعله قادراً على إعاشتهن، أرجو من أهل الخير فى الدنيا، ومن أصدقائى الكرام الأحرار أن يسعوا فى إيجاد شغل له يكسب به ما يقوم بإعاشتهن وإن الله لا يضيع أجر المحسنين. كل ما عندى من الكتب المخطوطة التى كتبتها أنا تباع لمن يرغب فى شرائها على أن يكون له حق الطبع والنشر، ولا يكون لى فيها سوى الإسم. ويدفع المال الحاصل من بيعها إلى بنات "عبد". أدفن فى أى مقبرة كانت، على أن يكون قبرى فى طرف منها. وألا يكون فى أرض مظلومة وهى التى لم تحفر قبلاً. إن كانت الحياة نعمة سابغة من الله على عباده، فإن الموت رحمة واسعة منه عليهم. فالموت هو رحمة الله الواسعة التى وسعت كل شيء. كل من عليها فانٍ، ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام. المؤمن بالله وحده لا شريك له – معروف الرصافى ".
ويبدو الرصافى فى هذه الوصية مصراً على بعض مواقفه القديمة، متجاوزاً بعضها، يائساً من الدنيا، محطم الآمال والأحلام. وهو فى ذلك إنما يتساوى مع الكثيرين من أمثاله من كبار أعلامنا ممن أعطوا بلادهم المجد فى ميادينه المختلفة، إبداعاً فى الفكر وفى الآداب وفى الفنون، وفى النضال السياسى كذلك وغادروا الحياة فقراء منسيين. وتلك، لعمرى واحدة من مصائبنا التى لا تحصى!
نازك الملائكة
2008-1923
رحلت الشاعرة العراقية نازك الملائكة فى عام 2008. رحلت بعد أن كانت قد صمتت طويلاً وغابت عن الشعر وعن الحياة العامة وعن علاقاتها بعالم الأدب. وفقد الشعر العربى بغيابها واحداً من رموز نهضته الحديثة.
لقد تعرفت إلى نازك الملائكة فى أواخر أربعينات القرن الماضى إثر صدور ديوانها الأول "عاشقة الليل". وكان اسم نازك الملائكة قد بدأ يبرز فى عالم الشعر العربى الحديث منذ مطالع النصف الأول من أربعينات القرن الماضي. لكن شهرتها كشاعرة حديثة بدأت تصعد بسرعة الضوء فى أعقاب صدور ديوانها الأول "عاشقة الليل" الآنف الذكر. إلا أن ولادتها كشاعرة لم تأت من فراغ. فهى تنتمى إلى بيت أدب وشعر. والدها صادق الملائكة كان متخصصاً فى اللغة العربية ومدرساً فى فنونها وشؤونها. ووالدتها أم نزار كانت شاعرة. وخالها جميل الملائكة الأقرب إليها فى السن، كان أيضاً شاعراً. وكان رفيقاً أنيساً لها عندما كانت تتلمس كتابة الشعر فى سن مبكرة. لقد أتت نازك إلى الشعر من أبوابه العريضة. أتت إليه من ثقافة واسعة وعميقة، سواء فى الأدب العربى بالتحديد أم فى آداب الشعوب الأخرى. إذ هى اهتمت منذ وقت مبكر بتعلم اللغات من اللاتينية إلى الإنجليزية ثم إلى الفرنسية. وصارت تغرف الكثير من ثقافات الشعوب الأخرى ومن آدابها ومن الرموز الكبيرة فى تاريخها وتاريخ العالم. لكنها وجدت نفسها حين نضجت موهبتها الشعرية تقتحم باب الشعر الحديث من دون أن تتخلى عن الموسيقى التى تعطى للشعر العربى رنته ورونقه، ومن دون أن تتخلى عن العروض فى عدد كبير من قصائدها الأولى التى ضمها ديوانها الأول "عاشقة الليل". وتحولت نازك إلى ظاهرة شعرية فى قلب التحولات التى كان يحفل بها عالم الشعر والشعراء بخاصة وعالم الأدب بعامة. وهى كانت حركة تعبر عن نهضة جديدة شملت أجناس الأدب جميعها. وكان مركزها فى الأربعينات والخمسينات كلاً من مصر والعراق ولبنان. وجدير بالذكر أن هذه النهضة الأدبية والتنافس بين روادها كانت قد ترافقت مع سيل من الأحداث السياسية فى العراق وفى العالم العربي. اهتمت نازك منذ البدايات بالمدارس الأدبية على اختلافها وبالأخص منها المدرستين الرومانسية والواقعية. ثم صارت تهتم بالمدارس الحديثة التى سرعان ما صارت جزءاً منها ومن روادها فى الشعر. وكانت تتابع فى الوقت عينه اهتمامها بالرموز الأدبية التى عبرت عنها تلك المدارس الأدبية فى تعددها وفى تنوعها. فترجمت نصوصاً وكتباً لعدد منهم.
لقد أتيح لى أن أتعرف إلى نازك الملائكة مع بدايات ظهور اسمها فى عالم الشعر كما أشرت إلى ذلك. وكان ذلك فى العراق فى عام 1947. كنت فى السابعة عشرة من عمري. وكنت شغوفاً بالأدب شعراً وقصة ورواية ونصوصاً مسرحية. وكنت أتابع بشغف منذ سن مبكرة فى لبنان ما كان يصلنا من مصر على وجه التحديد من مجلات أدبية ومن دواوين شعر ومن روايات وقصص ومسرحيات. لذلك وجدت نفسي، فى كنف ابن عمى حسين مروة ومع ابنه نزار رفيق عمرى خلال وجودى فى العراق، سريع الدخول فى عالم الأدب والأدباء. لكننى تعرفت إلى نازك فى منزل الأديب اللبنانى محمد شرارة. ثم صرنا نلتقى فى منزل صادق الملائكة لكى نجتمع إلى نازك ولنستمع إلى حديثها فى الأدب وإلى قصائدها الجديدة التى كانت تتلوها علينا بحياء وخفر. وهما سمتان لصيقتان بنازك لم يغادراها حتى وهى فى عمرها الذى كان قد تجاوز الثمانين. وكان والدها صادق الملائكة يكثر من الحديث فى اللغة ليؤكد لنا عمق وسعة اطلاعه على شئون لغتنا العربية وشجونها فى الصرف والنحو وفى معانى المفردات وفى سوى ذلك. أما أم نزار والدة نازك فكانت تتحدث إلينا فى الشؤون الأدبية العامة من موقعها كأديبة وكشاعرة. وهى بتلك الصفات والكفاءات ربت ابنتها نازك وساعدتها فى تفجير مواهبها الشعرية. لكن علاقتى مع نازك لم تدم أكثر من العامين اللذين أمضيتهما فى العراق.
ولدت نازك الملائكة فى عام 1923 فى محلة "العاقولية" إحدى مناطق بغداد القديمة الواقعة بالقرب من شارع الرشيد. ثم انتقلت العائلة بعد ذلك إلى الكرادة الشرقية. كانت نازك المولود البكر لأبويها. وتقول الأديبة العراقية الراحلة حياة شرارة فى كتابها "صفحات من حياة نازك الملائكة" أن جذور عائلة الملائكة تعود إلى النعمان بن المنذر بن ماء السماء. وهو أحد أشهر ملوك المناذرة اللخميين فى الحيرة المعروف فى التاريخ العربى بأنه عمل فى زمانه على جمع كلمة القبائل العربية وعلى توحيدها. وتضيف حياة بأن آل الملائكة كانوا شديدى الإعتزاز بجذورهم التاريخية تلك. لكن المتداول فى الجذر الحديث للعائلة هو انتسابهم إلى عائلة الجلبي. ثم صار اسم العائلة الملائكة. وهو الإسم الذى عرفت به نازك أباً عن جد. أما لماذا سميت نازك بهذا الإسم فتقول حياة شرارة فى كتابها الآنف الذكر إن نازك أخبرت الموسيقار محمد عبد الوهاب عندما التقته فى عام 1974 بأن والديها اختارا لها هذا الإسم تيمناً باسم الثائرة السورية نازك العابد.
انتقلت نازك من مدرستها فى بغداد إلى مدرسة الكرادة الإبتدائية للبنات. وكانت المدارس قليلة العدد، لاسيما مدارس البنات. كانت نازك متميزة فى دراستها متفوقة على قريناتها فى الصف رغم الصعوبات التى واجهتها فى مادة الرياضيات. وتقول نازك فى مذكراتها، التى تنقلها حياة شرارة، فى معرض حديثها عن المواد الدراسية: "كنت منذ صغرى أحب اللغة العربية والإنكليزية والتاريخ ودروس الموسيقى. كما كنت أجد لذة فى دراسة العلوم خاصة علم الفلك وقوانين الوراثة والكيمياء. لكننى كنت أمقت الرياضيات مقتاً شديداً، وأعد السنين يوماً يوماً لأصل إلى إنهاء المرحلة الثانوية، فأتخصص بدراسة الأدب... ولقد بدأت نظم الشعر وحبه منذ طفولتى الأولى. والواقع أننى سمعت أبويّ وجدى يقولون عنى إننى "شاعرة" قبل أن أفهم معنى هذه الكلمة، لأنهم لاحظوا عليّ التقفية وأذناً حساسة تميز النغم الشعرى تمييزاً مبكراً. وبدأت بنظم الشعر العامى قبل عمر السبع سنوات. وفى سن العاشرة نظمت أول قصيدة فصيحة وكانت قافيتها غلطة نحوية. وعندما قرأها أبى رمى القصيدة على الأرض بقسوة وقال لى فى لهجة جافة مؤنبة: اذهبى أولاً وتعلمى قواعد الشعر، ثم انظمي... لكن أبى بقى أستا ذى فى النحو حتى أنهيت دراسة الليسانس. وكنت أهرع إليه بكل مشكل نحوى يعرض لى وأنا أقرأ ابن هشام والسيوطى والأشمونى وسواهم".
بدأت نازك مع خالها جميل بدراسة العروض بمفردهما، عندما كانا فى المرحلة المتوسطة من دراستهما. وشرعا ينظمان الشعر على قواعد العروض وبحوره. وكانت تشكل المسابقات الشعرية التى كان ينظمها أفراد الأسرة فى اجتماعاتهم نوعاً من التسلية ولوناً من الرياضة الفكرية. وكان من بين ما قامت به نازك مع خالها وإخوتها إصدار مجلة بيتية عائلية أطلقوا عليها اسم "الشاعر". وكان ذلك فى عام 1936. ولم يصدر منها سوى عدد واحد نشرت فيه نازك واحدة من قصائدها الأولى. ثم بدأت فى نظم الشعر فى المناسبات. وكانت تقوم بتلحين بعض قصائدها وبأدائها غنائياً بصوتها. ومعروف أن نازك كانت تعشق الموسيقى منذ طفولتها. وقد قادها حبها للموسيقى إلى تعلم العزف على العود. ولم يمض وقت طويل حتى كانت مكتبتها تغتنى بالعديد من الآثار الموسيقية العربية والكلاسيكية. واقتنى والدها الفونوغراف فى وقت مبكر لتمكين نازك من ممارسة هوايتها الموسيقية المبكرة. وتابعت بمساعدة والدها التزود بالآداب من خلال اقتناء الكتب من مصادرها الأساسية. وتكونت لدى العائلة مكتبة غنية بكل ألوان الأدب. لكن نازك لم تأت إلى الأدب وإلى الشعر خصوصاً كنزوة من النزوات. بل هى اعتبرت أن الأدب عموماً والشعر خصوصاً، هما علاقتها بالوجود وعلاقتها بالحياة فى بلدها وفى العالم العربى وفى العالم الأوسع. لذلك كانت تنفعل بالأحداث التى كانت تحصل أمامها فى العراق وفى العالم العربي. وكانت تلك الاحداث تترك فى مشاعرها وفى أفكارها أثراً عميقاً. وكان من بين الأحداث الأولى التى هزتها وفاة الملك غازى ملك العراق الشاب فى حادث اصطدام مروع لسيارته. ومعروف أن الملك الشاب كان يمارس هواية السير السريع فى إحدى ضواحى العاصمة بغداد. ولأنه كان معروفاً بعلاقته بالألمان فقد سرت إشاعة قوية بأن الإنكليز هم الذين قتلوه. ثم جاء فشل ثورة رشيد عالى الكيلانى ضد الإنكليز فى عام 1941 ليترك مزيداً من الأسى عند نازك. ورغم أن والديها لم يكونا ينتميان إلى أى من التيارات السياسية المعروفة فى العراق فإنهما كانا يلتزمان موقفاً وطنياً معادياً للإستعمار من دون الدخول فى دهاليز السياسة ومن دون أن يكون لهما مرجعيات فكرية. لكن الصداقة العميقة التى كانت تربط صادق الملائكة مع حسين مروة ومحمد شرارة ومع عائلتيهما، وكنت واحداً من أفراد العائلتين الذين كانوا يساريى النزعة فى الفكر وفى السياسة، تلك الصداقة هى التى جعلت أجواء اللقاءات التى كانت تجرى بين هؤلاء جميعاً تحمل طابعاً يساراياً بالمعنى الواسع للكلمة ولمضمونها. وقد أخذت نازك عن والديها ذلك الإتجاه العام فى مواقفها. وظلت على امتداد حياتها تهتم بالشأن الوطنى وبالقضايا العربية وفى مقدمتها قضية فلسطين. وكان يؤرقها ويوجعها حتى الأعماق وضع فقراء بلادها. وكانت تثير سخطها التقاليد القديمة التى كانت مهيمنة على حياة العراقيين فى الريف خصوصاً وحتى فى المدن، لا سيما ما يتصل من تلك التقاليد بالموقف المتعسف من المرأة. وكانت تلك القضايا جميعها مواضيع أساسية فى شعرها.
فى عام 1936، وكانت نازك فى الثالثة عشرة من عمرها، نظمت أول قصيدة لها بالمعنى الحقيقى للشعر. وحين أطلعت والدها على القصيدة دهش، وكاد لا يصدق أن نازك قد أصبحت قادرة على امتلاك ناصية الشعر فى مثل تلك السن المبكرة. لكن نازك سرعان ما بدأ يسيطر عليها شعور بالعزلة وبالكآبة برغم ما اقترن بشخصيتها من غنى وبرغم تفجر طاقاتها الإبداعية وهى فى تلك السن المبكرة. وظلت تلك العزلة رفيقتها على امتداد حياتها. ويبدو أنها كانت متأثرة بملحمة الشاعر اللبنانى المهجرى إيليا أبو ماضى المعروفة بعنوان "لست أدري". وهى تقول فى مذكراتها الآنفة الذكر، ربما تفسيراً لتلك العزلة المقترنة بالتشاؤم التى استولت عليها:"التفكير الفلسفى عادة تملكتين منذ الصبا. فقد كنت دائماً أحب أن أفلسف كل شيء وأغوص فى حيثياته وأسبابه. وفى سنوات النضج أقبلت على قراءة الفلسفة. وفى أيام الشباب أثرت فلسفة شوبنهاور المتشائمة تأثيراً شديداً فى نفسي".
فى عام 1939 أنهت نازك دراستها الثانوية وانتسبت إلى كلية الآداب. وتابعت كتابة الشعر وهى فى الكلية تغرف من المعارف ما يلبى طموحها. وكان يستهويها نظم الشعر بالإشتراك مع والدتها. وفى عام 1940 ألقت أول قصيدة لها فى محطة الإذاعة العراقية. وفى عام 1941 نظمت بالإشتراك مع والدتها ومع خالها جميل قصيدة بعنوان "بين روحى ودنياي"، كل بيت يشير إلى صاحبه بالحرف الأول من اسمه. فى عام 1942 دخلت نازك فى معهد الفنون الجميلة فى فرع العود. كما دخلت فى فرع التمثيل فى المعهد.
إلا أن من أغرب ما عرف عن مزاج نازك عزوفها عن الزواج. وشكلت فى النصف الثانى من الأربعينات جمعية ضد الزواج ضمت شقيقتها إحسان والروائية ديزى الأمير. لكن الجمعية سرعان ما تصدعت. إذ أخذت المنتسبات إليها بمغادرتها إلى الزواج الواحدة تلو الأخرى. وكانت أولاهن شقيقة ديزى الأمير.
وهكذا، وفى شكل متدرج صعوداً، أصبحت نازك الملائكة شاعرة عراقية معترفاً بها بين الشعراء، وشاعرة عربية معترفاً بها بين الجيل الجديد من الشعراء العرب.
فى عام 1949 صدر ديوانها الثانى "شظايا ورماد" حاملاً إلى القراء تحول نازك فى اتجاه الشعر الحر المتحرر من قوانين العروض. وكانت أول سفراتها خارج العراق فى ذلك العام بالذات الذى صدر فيه ديوانها هذا . وكانت وجهتها لبنان.
مع صدور ديوانين لها انطلقت نازك فى العالم الأرحب. ذهبت فى سفرات دراسية، ثم فى سفرات لإلقاء محاضرات، ثم فى سفرات من أنواع مختلفة. ورغم الشهرة التى كانت تلاحقها فى سفراتها، ورغم أنها كانت قد غادرت العزوبية وتزوجت وأنجبت أطفالاً، إلا أنها ظلت كما هى فى مزاجها السوداوى الذى لم يفارقها. فى تلك الفترة من حياتها بدأت نازك تمارس أنواعاً مختلفة من الكتابة. كتبت قصصاً قصيرة. وكتبت فى النقد الأدبي. وصدرت لها إلى جانب دواوينها الأخرى كتب فى مجالات أدبية أخرى. وصدرت لها ترجمات عن الإنكليزية لعدد من الأدباء والشعراء. واكبت نازك فى شعرها أحداث وطنها العراق وأحداث العالم العربي. وأكدت بذلك أنها، رغم ما هى فيه من سوداوية خاصة بها، معنية بما كان يجرى فى العالم العربى من أحداث. وهى أحداث كانت بمجملها أحداثاً مأساوية تمثلت بهزائم سياسية وعسكرية. وكان الأساسى من تلك الأحداث والهزائم يتعلق بفلسطين. وكان بعضها الآخر يتعلق بالعراق. أما بعضها الثالث فكان يتعلق بالوحدة العربية. لكن أبرز ما أثار مشاعرها ما تمثل فى انتكاسة الوحدة المصرية – السورية وفى هزيمة العرب فى حرب حزيران فى عام 1967.
تغيرت طرائق نازك الملائكة فى كتابة الشعر بين الحديث منها والكلاسيكي. لكنها انتقلت فى القسم الأخير من حياتها إلى الشعر الموزون والمقفى. وقد عبرت عن موقفها من الشعر فى أكثر من مقدمة من المقدمات التى وضعتها لدواوينها. ففى مقدمة ديوانها الثانى "شظايا ورماد" تعتبر أنه لا توجد قواعد للشعر بل أحكام. إذ تقول بالنص :"فى الشعر، كما فى الحياة، يصح تطبيق عبارة برنارد شو:" اللاقاعدة هى القاعدة الذهبية"، لسبب هام، هو أن الشعر وليد أحداث الحياة، وليست للحياة قاعدة معينة تتبعها فى ترتيب أحداثها، ولا نماذج معينة للألوان التى تتلون بها أشياؤها وأحاسيسها. ولا تناقض بين هذا الرأى وما يقسم إليه النقاد الشعر من مدارس ومذاهب، حين يقولون "كلاسيكي، رومانتيكي، واقعي، رمزي، سوريالي..." فهذه كلها ليست قواعد، وإنما أحكام".
غابت نازك الملائكة عن كتابة الشعر قبل وفاتها بسنوات عدة. إذ هى مرضت. وأقامت فى المرحلة الأولى من مرضها فى العراق، ثم فى عمان، ثم فى القاهرة. وظلت فى الأعوام الأخيرة من حياتها فى القاهرة ترفض أن تزور أحداً، أو أن يزورها أحد. وكان زوجها يجيب بالنيابة عنها على أسئلة المتصلين بها معتذراً عن عدم قدرتها، وعدم استعدادها، لاستقبال الزائرين. ثم أصبح ابنها يقوم بتلك المهمة الصعبة بعد وفاة زوجها. وكان قد بدأ ذلك السلوك عندها عندما كانت لا تزال فى العراق. وقد روت حياة شرارة، فى كتابها الممتاز عن حياة نازك، صعوبة اتصالها بها، رغم ما كان يربط العائلتين من أواصر الصداقة منذ البدايات فى أربعينات القرن الماضي. هذه هى نازك الملائكة شعراً، وحياة، وسيرة، وأمزجة، ومشاعر، ومواقف أدبية وسياسية ورومانسية، وسوى ذلك مما يكمل صورة هذه الشاعرة العراقية التى غادرت الحياة عن أربعة وثمانين عاماً من عمرها قبل أن تفى بما وعدت به فى حديثها حول الجديد الذى يختمر عند المرء فى مثل هذا العمر؟!

لمزيد من مقالات كريم مروَّة


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.