بأى معايير وبأى ضمير يمكن لمثقف، أى مثقف، أن يوزع «غنيمة» الثورة بين المرشح الرئاسى حمدين صباحى من ناحية؛ وبين ملايين المصريين من ناحية أخري؟ أعني: هل حقا يمكننا القطع بأن ما يدور الآن هو صراع بين الثورة والثورة المضادة؟ لا أهزل ولا أكذب عندما أنقل هذا الكلام حرفيا عن الكاتب علاء الأسواني. فالحديث كان على منصة تتلألأ بالأضواء والكاميرات وهذه مائدة لا تفوت الأسواني، أما المكان فأمام قصر عابدين حيث الجميع معتقدا أنه يمتطن حصان أحمد عرابى، والمناسبة تدشين آخر مؤتمرات صباحى الانتخابية. سوء الفهم البادى فى تصور الأسوانى لشرعية المستقبل يبدو شديد الخطر، فهو يعنى أن ثمة تيارات تعد العدة لإسقاط الشرعية المقبلة أيا كانت ومهما كان الإجماع الذى سيتشكل حولها. يتبدى ذلك فى خطاب الجماعات الراديكالية عالية الصوت وبعض الأحزاب التى يتشكل قوامها من سلفيين وإخوان وليبراليين يعملون وفق أجندات ممنهجة، بالإضافة إلى عدد من الأبطال المزيفين الذين يعيشون بين أيدى مواليهم فى الشرق والغرب. وسواء كان يدرى أو لا يدرى فإن تصريح الأسوانى يضع المرشح الرئاسى حمدين صباحى فى صدام مع الجماهير التى ربما كانت محلا للرهان فى استحقاقات مقبلة، كما يغلق مشروعه السياسى على نخبة متآكلة لا تتجاوز شرعيتها حدود مقاهى وسط المدينة، لتظل التيارات السياسية على خصومة مع التيار الرئيسى من الشعب المصري، من ثم يبقى الحديث عن تجانس الكتل السياسية المعارضة أمرا يثير السخرية، فالأدق أنها كتل وجدت تجانسها الوحيد فى خروجها جملة من دائرة التأثير بعد أن طردتها الجماهير طردا جماعيا. وظنى أن جميع مقاييس الزلازل والبراكين التى ابتكرها العقل البشرى لن تستطيع تقدير حجم الشروخ التى أحدثها رطان المثقفين المصريين بعد أن كاد الرذاذ المتطاير من أفواههم يغرق العالم بأسره على مدى السنوات الأربع الماضية. فاللحظة التى يعتقد فيها المثقف أنه صار عظيما لحد النبوة؛ هى اللحظة نفسها التى سيرى فيها أنه محتكر الحقيقة وربما خالقها،وهو هنا ليس إلا فاشيا لا ينقصه سوى امتلاك السلاح. الأمثلة فوق الحصر، والنائحون على طلل مصر لم يتذكروا فقط من الصفحة سوى سوادها، لكنهم لم يتذكروا أبدا أن بيتهوفن أعظم الفنانين تعاسة أنهى أعماله بقصيدة شيللر «أغنية إلى البهجة». كما أن التمرد الذى يمارسه البعض على أنه الجوهر الثورى الذى يجب أن يكتب له الخلود ارتُكِبت باسمه جرائم العصر الحديث كلها، وقد كانت الأيديولوجيا سببا فى ارتكاب مئات المجازر فى مختلف الأنظمة السياسية وتحت نفس الشعارات الثورية. وهذا هو المشهد الذى تحاول بعض الجماعات والأصوات تأبيده فى مصر حتى بعد الاستحقاق الرئاسى الذى سيكون بين أيدينا،ربما، بعد ساعات . ولا أعرف كيف يمكن للإرادة شبه الجمعية أن تنظر لوصف الأسوانى لها بأنها تمثيل للثورة المضادة ؟ لكننى فى كل الأحوال أراه وصفا يخلو من المسئولية، فهو وصف سينسحب على ملايين ربما منحت صوتها للمنافس الذى صاغ شعارات الثورة ويُتهم الآن بأنه يقود ثورتها المضادة. أدرك طبعا أننى لست مخولا هنا للدفاع عن الجماهير، ولا عمن يبدو أنه ممثلها الأكيد، فالأسماء لا تعنى شيئا، لكن نتيجة الصراع يجب أن تكون محل اعتبار للكافة حتى يعرف الجميع موقع أقدامه بعيدا عن هذا التدليس وتلك الغوغائية. فقد يصدق البعض انخفاض منسوب الضمير لدى مثقفين عرفناهم ونعرفهم، لكنهم لن يصدقوا أبدا أن المثقف جاهل يدافع عن كونه مغتبطا لجهله. فالأصل فى المثقف أن يحرر ذاته من خلال المعرفة، وليس من خلال التعامى عن الاعتراف بالحقيقة. ورغم أننى لم أعثر فى تاريخ الأسوانى على مسوغ واحد يجعل منه ثوريا راديكاليا إلا أننى أسلم بحقه فى الاختيار بطبيعة الحال. لكن يبقى أخطر ما يفعله وأقرانه أنه يسعى جادا لكى تتحول مقولاته عن هدم الدولة إلى حقائق ملموسة، ليس لشيء سوى لتأكيد صدق نبوءته. وأظن أن الأسوانى فى ذلك حالة فريدة بين أدباء ومثقفى عصره، لكنه يخالف فى ذلك أنماط المثقفين الكبار الذين عرفهم العالم.فلم يكن اشبنجلر، مثلا، فى حاجة إلى هدم أوروبا بيديه حتى يثبت صحة المزاعم التى انتهى إليها فى كتابه الشهير»أفول الحضارة الغربية»، رغم أن كارل بوبر وغيره من مفكرى أوروبا الكبار اعتبروه واحدا من هؤلاء الأنبياء الكذبة.وفى الإجمال،فإن إصرار الكتلة «الثورية» على تلك اللغة الإقصائية الفجة المكتظة بالعنف سينتهى إلى عدة نتائج. أولا: استمرار غياب مفهوم واضح للثورة، ومن ثم غياب القدرة على طرح بدائل سياسية مقبولة، الأمر الذى يعنى اتساع المسافة بين التيار الرئيسى فى المجتمع وبين تلك التيارات،ما يهدد بمزيد من العزلة والفشل للمعارضة السياسية. ثانيا: محاولات تعظيم تناقضات المسار السياسى الراهن تعني،فى أذهان العامة، العودة لنداءات تدمير الدولة،ما يمكنه تحويل المعارضة السياسية إلى كتل مستهدفة من السلطة ومن الشعب على السواء، وهذا خطر لابد من الانتباه لكارثية نتائجه. ثالثا: الرهان على تفتت الكتلة الشعبية حول السيسى مقابل تماسك الكتلة الثورية حول صباحى رهان مثير للأسى. فكتلة السيسى لا تمثل، بكل أطيافها، طبقة سياسية، وتناقض مصالحها يضمن عدم تغولها، بينما كتلة صباحي،فى معظمها، كتلة أيديولوجية ستدب بين جنباتها الصراعات فور تحقيق أدنى المكاسب السياسية . وتقديرى أن خطورة وتعقيد الأوضاع يجعل القضية فوق فهم هؤلاء. فربما يتفهم المرء دوافع كاتب بسيط وجد نفسه فى دائرة الضوء، فأصبح جنونه بالشهرة متجاوزا حدود وروادع الوطنية، لكن ما لا يمكن فهمه أن يندفع التيار الأكبر فى كتلة صباحى إلى الصدام الكامل مع منطلقات ثورة 30 يونيو تحت تأثير تلك الخطابات الغوغائية. لمزيد من مقالات محمود قرنى