سيخسر السيد حمدين صباحى الانتخابات الرئاسية، ليس لأنه دون المقعد الرئاسى الذى لم يعد رفيعا، ولكن لأن شروط شغل هذا الفضاء الصعب تغيرت، فيما يبدو، من خلف ظهره. ورغم مشاركتى لكثيرين رأيهم فى حصافة وذكاء ووطنية صباحي، إلا أن ذلك كله لم يعصمه من الزلل. وأظن أن أول عوارض هذا الزلل يكمن فى عدم إدراك صباحى للرفض الشعبى الواسع لنموذج الدولة الرخوة الذى أسفرت عنه صيغة ما بعد 25 يناير. ولاشك أن انتساب صباحى لصناع هذا المشهد لم يعد من الأسباب التى يمكنها ترجيح حظوظه فى الصعود، لاسيما وأن ثمة تحالفات صغيرة مع قوى راديكالية مثل 6 إبريل والاشتراكيين الثوريين تسهم فى تكريس صورة تختلف لحد التناقض عن مفاهيم صباحى السياسية بشكل شبه جذري. وتحت وطأة الدعم السياسى يغامر الناصرى الملتزم، القادم من رجع الفضاء القومي، بالتحالف مع مجموعات أممية شبه فاشية تحت راية وهمية اسمها الثورة الشعبية وكذلك مجموعات من الليبراليين الجدد، المتهمين بحق وبغير حق، بأنهم عملاء للعديد من أجهزة الاستخبارات. هذه الضغوط دفعت صباحى لإحياء خطاب يفاقم المسافة بين مفهومى الثورة والدولة فى لحظة لا يتصور فيها المصريون أوضاعهم بعيدا عن وحدة حتمية يرونها واجبة بين المفهومين. لذلك ينظر كثيرون لحديث صباحى المبالغ فيه عن الانتصار للشهداء، رغم أنه واجب وطنى وأخلاقي، على أنه تأجيج لآلام يجب أن تهدأ، كما لا يفهم كثيرون حديثه عن حتمية دعم الحريات بإلغاء عدة قوانين بينها قانون التظاهر سوى فى إطار المزايدة السياسية التى ستخصم الكثير من رصيده، ما جعله فى نظر هؤلاء يمثل التجسيد الرخو لامتياز الفوضى. لا أتحدث هنا عن الرطان اللانهائى الذى يميز خطاب المرشح المفوه والأثيرى حمدين صباحى مقابل الخطاب الأكثر ابتسارا وتحديدا للمرشح عبد الفتاح السيسى . فبرامج المرشحين ورطانهم حولها لم يعد يعنى الكثير لدى المواطنين، ولن أكون مبالغا إذا قلت إنه أمر لم يعد يعنى أى شيء على الإطلاق. وأظن أن العامة كانوا فى حاجة لمن يقصرون حديثهم على الوهدة التى ابتلعت وطنا مازال يقف على شفا الضياع، وعلى مستقبل تتناهبه كومة من المؤامرات. فالميراث الصعب الذى تركته السنوات الأربع الماضية صنع عشرات الأخاديد والحفر فى قلوب وضمائر الملايين، وتحولت النخبة السياسية فى نظر العامة إلى مجموعات من المضللين والمضللين بكسر اللام وفتحها. لذلك أكاد أجزم بأن الخطاب الرئاسى لصباحى لم يمثل، حتى اللحظة، إجابة عن أسئلة الملايين الذين خرجوا ليصنعوا هذا الحدث التاريخى العاصف فى الثلاثين من يونيو. وليس من ضير فى أن يكون أحد أهم مخاضات الحدث وضع السيد صباحى على مقعد المرشح الرئاسى اللامع؛ ليكون بإمكانه أن يغدق على منافسه بأن يعتقه من المحاكمة إذا ما فاز بالمقعد الوثير!! هذا يعنى بالضرورة أن رسالة الثلاثين من يونيو لم تصل بعد لسمع صباحى أو أنها ضلت الطريق فى أحسن الأحوال، فى الوقت الذى كان على صباحى أن يدرك المدلولات الخطيرة لتبدد فكرة الدولة وتجلياتها التقليدية لدى عامة الناس، ما جعل قضية استعادة هذه الدولة تمثل عنوانا أبرز للثورة الثانية. لذلك أتصور أن خيبة أمل كبيرة أصابت قطاعات واسعة لم تفاجئها،على أية حال، تصريحات صباحى وتصوراته للمستقبل. من هنا أظن أن الصراع السياسى غير المتكافئ بين «رجل الثورة » حمدين صباحى «ورجل الدولة » عبد الفتاح السيسى دفع بالملايين إلى حجر الثاني. يتعزز هذا التصور عبر مجموعة من الحقائق التى عكست التأييد الكاسح لرجل الدولة ، وهى حقائق لا تقبل التفضيل فى برنامج السيسي، حيث يأتى على رأسها قضية الأمن والاستقرار ومن ثم دعم الجهاز الأمنى فى إطار قانونى ودستورى لا يعيد الشرطة إلى دور الجلاد تحت أى لافتة ، انتشال الوطن الغارق فى أزمات يومية طاحنة من بطالة وفقر ومرض وعوز استردادا لقيمة الفرد فى دائرة الترقى الإنسانى المستحق ، إطلاق عدد من المشروعات القومية التى يستعيد معها الوطن خطابا موحدا تجاه مستقبله وقضاياه العامة، فصم العلاقة بين الإسلام السياسى ببعده النفعي، وبين الدين بامتداداته العقائدية ومدونته الأخلاقية الرفيعة. وأعتقد أن تاريخا من انعدام الثقة بين الدولة وبين النخب السياسية صنع مسافة لم تجبرها الثورة حتى أيامنا؛ وكان الأمل معقودا على النخب السياسية لتدفع فى طريق صناعة الكادر السياسى الذى يؤاخى بين فوائض الثورة وواجبات الدولة لكن ذلك لم يحدث، وكانت النتيجة أن ظلت النخب الثورية تتعامل مع الدولة باعتبارها عدوا دائما وصديقا محتملا، وهو نزوع لا يقصر الفاشية على سلوك الدولة وغلظتها فحسب، بل يجعل الفاشية أيضا جزءا من أدبيات الثورة. ومن نافلة القول أن وصول المعارضة لأدنى درجات الفعالية السياسية والثقة الشعبية واحد من أخطر هذه العوارض. وأظن أن ثمة مخلصين حقيقيين من رفاق صباحى يدفعونه للعمل على ما بعد انتخابات الرئاسة . فوجود تيار وطنى كالتيار الشعبى وسط المعارضة المصرية يمثل كسبا بكل المعانى للشعب المصرى كله، وثمة شراكة وجوبية فى صناعة المستقبل يجب ألا يتخلى عنها صباحى شريطة أن يتفهم أن الدولة أكبر من مقعد الرئاسة، وهو ما يلزمه وتياره بالعمل على القبول بنتائج الانتخابات طالما لم تكتنفها أخطاء فادحة تؤثر على مجمل نتائجها، وألا يترك لأنصاره حرية التعامل مع الانتخابات باعتبارها مرجعية لا تخصهم، ومن ثم فهى لا تلزمهم ، فهذا أمر سيكون شديد الخطر، فقد كان من نتيجة مثل هذا الحمق السياسى أن تم إخراج المشهد السياسى لثورة يناير على النحو الذى رسمته الولاياتالمتحدة والغرب والصهيونية العالمية والمتحالفين معهم فى المحيط الإقليمي. وتظل مشكلة صباحى فى أن عددا ليس قليلا من المؤيدين له باتوا يعرفون سعر كل شئ لكنهم ،على ما يبدو، لا يعرفون قيمة أى شىء . لمزيد من مقالات محمود قرنى