تتعدد الشواهد على ارتباط موسيقى الكنيسة القبطية بالموسيقى الفرعونية برباط التوارث الحضاري، وهو ما يؤكده التاريخ والمأثورات والبحوث الجادة عن موسيقى الشعوب. فالثابت أن الجماعة المسيحية الأولى فى مصر بشهادة الفيلسوف السكندري »فيلون« المولود عام 20م اتخذت لطقوسها المسيحية ألحانا فرعونية موروثة وضعت عليها النصوص القبطية، وأن أسلوب الأداء كان ترديديا بنفس أسلوب »المردات« المستخدم إلى الآن فى الأداء الكنسي القبطي. ويرى العالم الأثري الشهير »دريتون« أن مفتاح الموسيقى الفرعونية فى صفحات الموسيقى القبطية التى لا تقدر بثمن والتى تعتبر أقدم موسيقات الدنيا, وقد حفظته الكنيسة القبطية. وعندما عمَّت المسيحية مصر لم ينزع القديس »مار مرقس البشير« العادات المصرية، ولا حتى الموسيقى المصرية من المصريين، بل قام بتنصير الموسيقى والعادات. فظهرت ألحان مثل »بيك إثرونوس«، و»جولجوثا«، و»إبؤور«، و»الفرايحى«، وهى ألحان مصرية قديمة جميلة. وما يقال عن الموسيقى ينسحب أيضا على المسرح الذى هو طقس عند الفريقين الفرعونى والقبطى, وهذا يمكننا من أن نقول إن التراث القبطي همزة الوصل بين ماضينا الفرعوني وحاضرنا العربي. وهنا يبرز سؤال مهم : هل دراما الطقوس القبطية امتداد أيضا للدراما الفرعونية؟. وللإجابة عن هذا السؤال يمكننا مقارنة دراما إيزيس وأوزوريس بطقوس الجمعة العظيمة أو الحزينة التى تجريها الكنيسة القبطية سنويا للتشابه الشديد بينهما. يقول هيرودوت : » ويوجد كذلك فى سايس فى حرم معبد أثينا قبر، والقبر قائم وراء الهيكل ويشغل كل الحائط الخلفي لمعبد أثينا، و فى حرم المعبد مسلتان ضخمتان من الحجر بجوارهما بحيرة مزينة بحافة من الحجر وهى مهيأة على وجه حسن على شكل دائرة ومساحتها تعادل فيما يخيل إليّ مساحة »البحيرة المستديرة« فى ديلوس. وهى البحيرة التى يقوم المصريون فى الليل بتمثيل مقطوعة يسمونها »أسرار«، وبالرغم من معرفتى التامة بكل المراسم فإنى سألتزم الصمت الخاشع بشأنها. وإذا عرفنا أن بلدة سايس هى صالحجر, أما أثينا فهى حامية صالحجر، والقبر هو قبر الآله أوزوريس الذى كان له فى زمن هيرودوت نصب تذكاري فى كل معبد فى مصر. بهذه الشهادة يضعنا »هيرودوت« فى قلب المشهد المسرحى, فالمكان هو المعبد، أى أن المعبد هو المسرح, الذى يشاهد فيه الجمهور تمثيلية الآلام. والتمثيل هنا محاكاة فعل يؤدى بفعل مماثل، وليس بالقص ولا السرد فقط. ومصحوب بملابس وحركة أداء، واكسسوارات ومشاعل وإضاءة، والعرض هنا فى صميم الديانة المصرية والنص المعروض هو قصة الآله وحادث الاغتيال فى علاقته بالأناشيد والطقوس والشعائر التى كانت تؤدى بواسطة الكهنة أنفسهم. وبالمثل إذا انتقلنا إلى شعائر الجمعة العظيمة عند الأقباط سنجد إرشادات مثل : يقول الكاهن، ويردد المرتلون، وهكذا. ويصاحب المرتلين الشعب، وهذا التوزيع يوضح طريقة الفعل وليس القص ولا السرد. وهناك إرشادات طويلة توضح الحركة والمحاكاة المطلوبة » ميزانسين« ففى بداية صلاة الساعة الثالثة ملحوظة تقول » تزين الكنيسة بالستور والشموع والقناديل وتوضع أيقونة الصلبوت فى مكان مرتفع وحولها الأناجيل والصلبان والمجامر والشموع والورود والرياحين. وإذا قفزنا إلى ختام هذا الطقس وهى مرحلة تسمى (المطانيات، الدورة، الدفن) وهى التالية لصلاة الساعة الثانية عشرة وفى هذه المرحلة تشرح الإرشادات الآتى: يقول الكاهن البركة ثم يلف أيقونة الدفن بستر أبيض وعليها الصليب ويضعها فوق المذبح ويدفنها فى الورود والحنوط. ثم توضع خمس حبات من البخور رمزا لجراح السيد المسيح الخمس: الرأس واليدين والرجلين والجنب الطاهر، ويدفن الصليب فى الورود ويغطى بالابروفسارين (قطعة قماش يغطى بها المذبح فى بداية القداس الإلهى ومعنى الكلمة الحرفى هو بطاقة تقدمة ويقصد بها تقدمة الجسد والدم) ثم يوضع حول الأيقونة شمعدانان موقدان على مثال الملاكين اللذين كانا فى المقبرة واحد عند الرأس والآخر عند الرجلين ثم يقرأون سفر المزامير. ويقرأ كبير الكهنة المزمور الأول والكاهن الثانى المزمور الثانى والكاهن الثالث المزمور الثالث إلى أن يصل إلى الآية : أنا اضطجعت ونمت. ثم ينزلون من المذبح ويغلقون باب الهيكل ويكملون المزامير جميعا كطقوسهم كهنة وشمامسة. ولأن الطقسين الدراميين الفرعونى والقبطى معظمهما غناء وترتيل يعيداننا إلى الموسيقى مرة أخرى. فشواهد المأثورات تثبت أننا لا نزال نعثر فى ممارسات الكنيسة على ألحان مشهورة تتصل بالعصور الفرعونية ومنها اللحن » السنجارى« المسمى باسم بلدة »سنجار« القديمة التى كانت فى شمال مديرية الغربية، والتى كانت تحيطها الأديرة فى العصر القبطى، كما كانت لها شهرتها فى عصر الفرعون رمسيس الثانى (1301 1355 ق.م ) وكذلك اللحن الأتربى المسمى باسم بلدة أتريب بالقرب من الديرين الأحمر والأبيض فى منطقة أخميم, وأيضا لحن » بيئات ثرونوس« بمعنى »عرشك يا الله إلى دهر الدهور« الذى يجرى ترتيله كنسيا فى الساعة الثانية عشرة يوم الجمعة العظيمة، مصاحبا لطقس زفاف السيد المسيح إلى القبر، ومن القبر إلى العالم السفلى لكى يقتحم الجحيم، وينتقل بآدم وذريته إلى الفردوس بعد أن تتم مهمة الفداء لهم بالصلب. هو نفسه لحن زفاف الفرعون عند موته » فينزل من القبر إلى مركب الشمس ليدور مع الشمس فى الخلود والحياة الدائمة« . وأيضا لحن » الجلجثة« الذى يجرى ترتيله بعد صلاة الساعة الثانية عشرة من الجمعة العظيمة مع طقس دفن صورة المسيح المصلوب ( كوسيلة إيضاح لدفن جسده بعد اتمام عمل الفداء بالصلب) وهو من حيث الموسيقى والنغم نفس اللحن الذى كان يستخدمه الكهنة الجنائزيون. (هذه الملاحظات الموسيقية الأخيرة للباحث الموسيقى الراحل» فرج العنترى«) . هذه المقارنات والتأملات مجرد أمثلة من موضوع متسع يصعب رصده فى مقال واحد.