توقع السودانيون جميعا شماليين وجنوبيين بعد استفتاء عام2011، والذى انتهى بإنفصال الجنوب، أن يدخل البلدان فى حقبة تاريخية جديدة خالية من النزاعات الأهلية المسلحة، والمشكلات الإقتصادية.لكن لسوء حظهم، تزامن هذا الحدث العظيم مع إندلاع الانتفاضات الشعبية مدشنة ما يسمى «الربيع العربي». فتحولت أنظار العالم إلى هذه المنطقة، ولم يهتم أحد بما يدور فى السودانيين شمالا وجنوبا. وتعرض البلدان لإهمال كامل. ظل السودانان فى الظل حتى هذا الأسبوع حين رأينا (جون كيرى) وزير الخارجية الامريكية، يتجول فى شوارع (جوبا) عاصمة دولة جنوب السودان. حتى تفاقمت الأزمات فى الشمال والجنوب، ولأن النخبة الحاكمة فى الجنوب مقاتلة أصلا كان من الطبيعى أن تلجأ فى تسوية أزمتها بلغة السلاح ،وهذا ما حدث بين الرئيس(سلفا كير) ونائبه(رياك مشار). لكن حزب (المؤتمر الوطنى) الحاكم فى الشمال، أطلق مبادرة لما سماه (الحوار الوطني). وهذا ما سوف يركز عليه هذا المقال باعتبار هذه الخطوة هى محاولة أخيرة لتجاوز الأزمة وللخروج الآمن للنظام السودانى، والتحلل من مسئولية أى أخطاء سابقة. كان خطاب الرئيس (عمر البشير) فى 27 يناير2014 والذى أعلن فيه عن حوار شامل للجميع، بمثابة طوق نجاة لنظام عاجز ومعارضة حائرة. فقد دخل كل العمل السياسى فى دولة السودان، فى ورطة ومأزق استنفد كل المناورات والمحاولات. ورغم أن الخطاب جاء خاليا من أى إجراءات عملية لبناء الثقة أو تهيئة الأجواء بإطلاق الحريات وإبطال قوانين الطوارئ، إلا أن المعارضة- بالذات الأحزاب التقليدية- هرولت سريعا لانتهاز الفرصة.ومرت على الخطاب حتى الآن ثلاثة أشهر، ولم تعلن عن آليات هذا الحوار. وقد انشغلت الساحة السياسية السودانية تماما بهذه الكلمة التى صارت مبهمة لعدم وجود تغييرات ملموسة تبشر بالخروج من الأزمة.وتثبت قرائن الأحوال كل يوم،أن النظام يناور ويكسب وقتا لهندسة انتخابات عام2015 بطريقة تضمن فوز الرئيس (البشير) والحزب. لكن يبدو أن كل الأطراف السياسية لها فهمهما الخاص للحوار.فقد تحدثت بعض القوى السياسية المعارضة وبالذات ما يسمى بالقوى الحديثة - عن الحوار كوسيلة لتفكيك النظام، مستغلين أيّ انفتاح نسبى فى الحريات.ولكن رد عليهم نائب الرئيس السابق (نافع على نافع) بأن حزب (المؤتمر الوطني) الحاكم من الذكاء بحيث لن يسمح بتفكيكه من خلال الحوار. وحذر آخرون من الإنتحار أو التفكك الذاتي.أما (حسن مكي) الإسلامى الصريح، فقد قال مباشرة «... فالحوار رغم الاستبشار به لا اعتقد انه يمكن ان يؤدى الى نتائج، بل هناك اجندة خاصة يتم التمهيد لها تتعلق باعطاء الرئيس فترة رئاسية جديدة». (الرأى العام 25 ابريل2014). وبدأ الشك يدب فى صدور بعض أحزاب المعارضة التى شكلت «قوى الإجماع الوطنى»، فأعلنت صراحة رفضها للحوار فى مثل هذه الأجواء غير الديمقراطية. دأب النظام السودانى على شق صفوف معارضيه بتقديم اغراءات يصعب على الكل مقاومتها، خاصة حين يتعلق الأمر بالوزارات والحكم.وأغلب الأحزاب بعضها فى الحكم والبعض الآخر يعارض.وهذه المرة كان الصيد ثمينا، فقد نجح النظام فى سحب أكبر الأحزاب من صفوف تجمع المعارضة. وفى نفس الوقت، تعرض بعضها للانشقاق لرفض أجنحة داخلها لقرار الدخول فى الحوار بلا شروط. وكان آخر هذه الانقسامات فصل حزب الأمة لأمينه العام بايحاء من رئيس الحزب. ولكن من دهاء التاريخ، أن سلاح الإنقسام ارتد للنظام الحاكم نفسه، ودارت معارك استخدمت فيها كل الأسلحة، بين المعارضين والمؤيدين للحوار. وكان من أخطر وسائل تصفية الحسابات داخل الحزب الحاكم، الفضح المتبادل لممارسات الفساد.وهذه أعاصير لابد أن يحاول النظام احتواءها سريعا. يعيش الوضع السياسى السودانى حالة من التيه، وانعدام أى بوصلة تحدد الاتجاه أو الأهداف.وتتحرك كل القوى السياسية «خبط عشواء»، ويتساوى فى ذلك الحكومة والمعارضة. وفى نفس الوقت ، تتصاعد التحديات الكبرى ولا توجد استجابة تماثلها. فالأزمة الاقتصادية تتفاقم يوميا ويعيش الناس حياة معيشية مزرية، والانتاج متوقف تماما رغم بداية الموسم الزراعى بسبب العجز عن التمويل وشح مدخلات الانتاج، ووصلت العملة المحلية أدنى مستوى لها منذ سنين طويلة.وفى الوقت نفسه، توقفت جهود السلام فى دارفور التى ترعاها دولة (قطر) المشغولة بمشاكلها الخاصة. وقد أدى هذا الفشل فى تحقيق السلام سريعا، الى عودة الميليشيات والجنجويد، وهم أكثر تسليحا هذه المرة. وليس من المبالغة فى شيء، القول بأن دارفور تسير سريعا نحو تقرير المصير، لأن هذه المعاناة لا يمكن أن تستمر للأبد. يواجه السودان مستقبلا قريبا قاتما، ولا تتحمل أوضاعه المناورات واللعب السياسى العبثى الذى تعودت عليه القيادات والنخب.وهذه هى الفرصة الأخيرة فعلا ، فالسودان بلد الفرص الضائعة بامتياز- فى كل المجالات. فقد كان رائدا للديمقراطية بين الدول حديثة الاستقلال. وكان يبشر بأن يكون سلة غذاء المنطقة، والآن تضربه المجاعات كل عام. فهل يمكن تحويل الحديث المجانى المرسل عن الحوار إلى فعل حوار حقيقى وواقعى؟ لمزيد من مقالات حيدر إبراهيم على