قبل أسبوعين تقريبا من حلول موعد مرور عام علي تفجر ثورة 25 يناير 2011 أخذ الانقسام يفرض نفسه بين من يريدون الاحتفال بهذا اليوم باعتباره يوما مجيدا في تاريخ الشعب المصري وهو اليوم الذي تفجرت فيه الشرارة الأولي للثورة, وبين من يرفضون أي مظهر من مظاهر الاحتفال ويسعون فقط إلي الاحتشاد وجعل اليوم يوما لتجديد الثورة أو لتفجير ثورة جديدة, أو إعلان موجة جديدة من موجات الثورة علي أساس أن الثورة لم تكتمل بعد, أو أن الجزء الأكبر والأهم من أهدافها لم يتحقق. سقط رأس النظام ولم يسقط النظام, ووصل الأمر بهذا الفريق, الذي كان أعلي صوتا وصخبا إلي درجة التطرف في رفض مجرد التعبير عن أي نوع من أنواع الاحتفال أو الفرحة بل وتجريمه, ونسي هؤلاء وهؤلاء, وسط كل هذا الضجيج الصاخب والتجريح المتعمد الذي امتد إلي التشويه والإدانة والاشتباك بالأيدي والألسن في ميادين التحرير في هذا اليوم, إن العقل والمنطق يقولان إننا كشعب مصري نجحنا نجاحا مبهرا في أن نخرج عن صمتنا وأن نكسر كل حواجز الخوف وأن نتحرك حشودا بالملايين في كل أنحاء مصر حول شعار قد يكون الأول من نوعه من بين ركام التقاليد السلبية للمصريين في علاقتهم بالحكم والسلطة يقول: الشعب يريد لم يكتف المصريون أن يقولوا: الشعب يريد وهي ربما تكون المرة الأولي في تاريخنا المعاصر أن نجتمع معا ونقول: نحن المصريون نريد ولكنهم قالوا الشعب يريد إسقاط النظام ولم يكتفوا بالقول الشعب يريد إسقاط رأس النظام. لم يحدث هذا فقط بل إن الجيش ممثلا في قيادته العسكرية (المجلس الأعلي للقوات المسلحة) أصدر بيانا شديد الأهمية والخطورة يوم 2 فبراير 2011 أي وقت أن كان مبارك يمسك بيده كل مقاليد الحكم والقوة, أعلن فيه انحيازه للإرادة الشعبية, وكان يمكن أن يكون مصير قادة المجلس الأعلي هو الإعدام رميا بالرصاص في حال فشل الثورة, ليس هذا فقط بل نزلت قوات الجيش إلي الميادين ولم تشتبك مع الشعب, بل توحد الشعب والجيش. حدث هذا كله, خرج الشعب عن صمته وأعلن بأعلي صوته أنه صاحب الكلمة الأولي في هذا الوطن, وانحاز الشعب إلي الجيش وأجبر الطاغية علي أن يتنحي عن الحكم. أليس هذا كله كافيا كي نحتفل به وأن نفرح له وأن نشجعه, وأن نقف معا مرة أخري لنقول إن الثورة لم تكتمل, وأن المجلس الأعلي ارتبك في إدارة المرحلة الانتقالية أو حتي انحاز للنظام السابق وسعي لحمايته أو حتي أنه جزء أصيل من هذا النظام ويجب أن يترك السلطة وأن يحاسب كل من أخطا في حق الشعب خلال تلك الفترة. ما الذي كان يمنع وجود فريق ثالث يقول بصوت أعلي: من حقنا أن نفرح ومن حقنا أن نحتفل, وأن يصرخ أيضا: من واجبنا أن نلتزم بإكمال الثورة, وأن نؤكد أننا جميعا علي استعداد لدفع دمائنا وأرواحنا ثمنا لتحقيق هذه الأهداف التي ثار الشعب من أجلها. للأسف هذا الفريق الثالث جاء صوته خافتا, ولم يجد له نصيبا وسط المتظاهرين في الميادين ووسط الإعلام الصاخب وعلي الأخص الإعلام الخاص الذي أخذ علي عاتقه عزف منظومة لطم الخدود, وهو الإعلام الذي ظل منحازا سواء كقنوات أو كمقدمي برامج إلي النظام البائد, وكان صوته المدافع عنه إلي جانب ذلك الإعلام الحكومي البغيض الذي ظل يردد معزوفة فاجرة كانت تتهم الثورة بأنها صنيعة ثلاثي شيطاني (إيران والأخوان وحزب الله مع حركة حماس الفلسطينية) أي الأطراف التي كانت علي صدام مباشر مع نظام حسني مبارك. انقسمنا علي الاحتفال فهرب الفرح من صدورنا ومن عيوننا ولم تبق إلا الحسرة, وغاب الشعب العنيد عن هذا كله, وعاد ليدخل مجددا إلي داخله, مثلما تفعل السلحفاة عند الخطر تنسحب إلي داخل صدفتها, وعبر الشعب عن غضبه من هذا الانقسام بابتعاده مجددا عن المشاركة السياسية, فلم يذهب إلي صناديق الاقتراع لانتخاب أعضاء مجلس الشوري التي أتوقع أن تأتي مشاركة رمزية وضعيفة. اعتقد أن ثمن هزيمة الفرحة سيكون باهظا علي مستوي المشاركة الشعبية في العمل السياسي, وفي عودة الشعب مجددا إلي الميادين ليتظاهر, بعد أن فقد قدرا لا يستهان به من الثقة في النخب المثقفة التي تتصدر المشهدين السياسي والإعلامي هذه الأيام والتي أدمنت الانقسام والصراع وليس أمامنا الآن لإنقاذ الثورة من انحسار المد الشعبي الداعم لها إلا بالعودة مجددا إلي الثوابت وأولها أن نحترم إرادة الشعب, وألا نشكك في وعيه واختياراته, فتشكيك البعض في شرعية مجلس الشعب تشكيك في الشعب ووعيه واختياراته, وتعمد البعض إهانة الجيش, والمجلس الأعلي للقوات المسلحة تطاول علي إرادة الشعب التي أعلنت أن الشعب والجيش يد واحدة. وثانيها أن نعود مجددا إلي التوافق الوطني حول خيارات وطنية استراتيجية; توافق داخل كل تيار من التيارات السياسية أولا, وتوافق بين التيارات السياسية كلها دون إقصاء لأي منها ودون استعلاء من بعضها ثانيا, ثم توافق بين التيارات السياسية والجيش ممثلا في المجلس الأعلي للقوات المسلحة. وثالثها, أن يكون علي رأس هذا التوافق أن نصل إلي كلمة سواء بخصوص التعجيل الآمن لانتقال الحكم إلي رئيس مدني كأولوية تسبق اختيار الجمعية التأسيسية لوضع الدستور, حيث إن الغالبية الآن من القوي والتيارات السياسية أضحت غير مطمئنة لإشراف المجلس الأعلي للقوات المسلحة علي اختيار هذه الجمعية وعلي عملية وضع الدستور. أن نتوافق علي انتخاب رئيس الجمهورية أولا وسريعا في عملية آمنة دون ايجاد أي فراغ دستوري أو أمني جديد, وأن يأتي هذا كله بتوافق واحترام متبادل وأن ندعم دور مجلس الشعب وأن نتوقف عن التشكيك في شرعيته, وهو الممثل الحق للإرادة الشعبية, والمكلف بأن يقوم بالدور التشريعي والرقابي في أصعب مراحل التحول بالثورة إلي دولة, أي تأسيس دولة الثورة من خلال الدستور الجديد الذي يجب أن يأتي كعقد اجتماعي سياسي يعبر عن الإرادة الشعبية مجتمعة, وعن أحلام وطموحات كل المصريين لبناء مصر التي نريد: مصر العزة والكرامة, مصر العدالة والحرية, عندها سوف تعود الفرحة لتملأ مصر كلها ولتسعد كل المصريين. المزيد من مقالات د. محمد السعيد إدريس