ينشغل الرأى العام فى الوقت الحاضر بالإنتخابات الرئاسية القادمة، وربما لا ينشغل الرأى العام فى الوقت الحاضر بالأنتخابات الرئاسية القادمة، وربما لايدرك كثيرون ان نجاح الرئيس القادم فى تحقيق الاستقرار السياسي واستعادة العافية للاقتصاد، وتحسين اداء الخدمات العامة يتوقف بدرجة كبيرة على تركيبة مجلس النواب القادم. فالوثيقة الدستورية التى اقرتها أغلبية المواطنين المشتركين فى الاستفتاء عليها فى شهر يناير الماضى تقيد بقاء الحكومة التى يشكلها رئيس الجمهورية بموافقة مجلس النواب على برنامجها، وفى حالة عدم الموافقة سيعود إلى الأغلبية البرلمانية تشكيل هذه الحكومة، وفضلا على ذلك فلايمكن لأى حكومة فى ظل الدستور المعدل أن تمارس مهامها بنجاح دون تعاون مجلس النواب معها وهوالذى يملك سلطات التشريع والرقابة وإقرار الميزانية والضرائب واعتماد أى تغييرات تنظيمية فى هياكل المؤسسات الحكومية. ولذلك فقانون انتخاب مجلس النواب هو ضرورى للرئيس القادم وللمواطنين، فهذا النظام هو الذى يحدد طبيعة السلطة التشريعية. هل تتألف من نواب قد يكونون محمودى السمعة فى دوائرهم الانتخابية، ولكنهم ليسوا مؤهلين للقيام بوظيفة وكلاء الأمة، يشرعون لها، ويراقبون تنفيذ سياسات الحكومة، ويقدمون بدائل لميزانيتها، أم أنهم يحملون رؤى سياسية محددة تعكس توجهات الرأى العام، ويثرون النقاش حول الخيارات المتاحة أمام الحكومة خصوصا فى القضايا الصعبة التى ستواجهها فى المستقبل القريب. الجواب عن هذا السؤال يجب أن يسترشد بتجربة نظم انتخابية عرفتها مصر وعرفها العالم فى الماضى والحاضر وكذلك على ضوء ما نريده نحن لنظامنا السياسي. عرفت مصر منذ عودة التعددية الحزبية ثلاثة نظم انتخابية أساسية بتوليفات متباينة فيما بينها. عرفت النظام الفردى منذ بدء الانتخابات البرلمانية فى سنة 1924، وطوال فترة حكم التنظيم الواحد، وبعد عودة التعددية الحزبية فى سنة 1976 حتى سنة 1984، ومرة أخرى منذ سنة 1990 حتى الانتخابات الأولى بعد ثورة يناير فى 2011-2012. أما نظام الانتخابات بالقائمة النسبية فكان عمره قصيرا ، ست سنوات فى ظل الرئيس حسنى مبارك وبضعة شهور فى عهد الرئيس السابق محمد مرسي. كما عرفت مصر صيغة عجيبة لنظام القوائم فى انتخابات مجلس الشورى وفى الانتخابات المحلية، تجمع بين القوائم الحزبية والأغلبية المطلقة فتفوز القائمة التى تحصل على الأغلبية المطلقة من الأصوات بكل مقاعد الدائرة التى تقدمت فيها. فماذا كانت حصيلة هذه التجربة؟ كانت الانتخابات التى جرت بنظام القوائم مع التمثيل النسبى هى الأوسع من حيث تمثيل القوى السياسية الموجودة فى المجتمع. وهى التى تواجدت فيها أحزاب المعارضة بالدرجة الأكبر. حصلت كل قائمة استوفت الحد الأدنى من الأصوات اللازمة للتمثيل فى البرلمان بعدد من المقاعد يقترب من نسبة أصوات الناخبين التى حصلت عليها على المستوى القومي، وتواجد نواب الوفد والإخوان المسلمين فى مجلس الشعب المنتخب فى سنة 1984 إلى جانب نواب الحزب الوطنى الديمقراطى الحاكم، ودخل حزبا العمل والأحرار الاشتراكيان فى مجلس الشعب الذى انتخب بعد ذلك بثلاث سنوات وشكلوا مع المستقلين أكبر عدد لنواب المعارضة فى تاريخ الحياة النيابية فى مصر حتى ذلك الوقت، ومنذ ذلك الوقت ومع الأخذ بالنظام الفردى حتى سنة 2005 ظل عدد نواب المعارضة وتمثيل الأحزاب السياسية ضعيفا حتى أبرمت الصفقة المشهورة بين جهاز أمن الدولة وقيادة الإخوان المسلمين مما سمح للإخوان بمضاعفة عدد نوابهم بخمسة أمثال ماكانت عليه الحال فى الانتخابات السابقة فى سنة 2000، ومرة أخرى مع العودة إلى الجمع بين نظام القوائم بنسبة الثلث والنظام الفردى بنسبة الثلثين زاد عدد النواب الحزبيين فى مجلس الشعب فى سنة 2012، وشمل تقريبا كل القوى الحزبية الفاعلة فى المجتمع، باستثناء تلك التى لا وجود لها بين المواطنين. ولذلك فالسؤال الذى يواجه اللجنة المشكلة لصياغة قانون انتخاب مجلس النواب واضح. هل نريد تقوية الحياة الحزبية فى مصر والارتقاء بمستوى الحوار السياسى فى المجتمع؟ أو ليست تقوية الحياة الحزبية هى الضمان بأن يكون هناك إعداد للقيادات السياسية المؤهلة لحكم البلاد والتى تكتسب الخبرة من خوض الانتخابات مع فرصة معقولة للفوز فيها، وبذلك لا نواجه هذا الهزال فى الافتقار إلى عدد مناسب من المرشحين الذين يتقدمون لانتخابات رئاسة الجمهورية ويحظون بقدر معقول من تأييد الرأى العام؟ أو ليس الإرتقاء بمستوى الحوار السياسى فى المجتمع هو الذى يكفل اعتدال مطالب المواطنين من الحكومة وألا يفرض أصحاب الرؤى المتطرفة من خلال أجهزة الإعلام بدائل مستحيلة التحقيق على صانع السياسات كما نشهد فى الوقت الحاضر؟. وهل نريد أن تكون الانتخابات النيابية فرصة للحوار بين رؤى وبرامج متنافسة على خدمة الوطن، أم تكون حملاتها فقيرة فى الحوار السياسى والقضايا التى تبرزها سوى استعراض كل مرشح مزاياه الفردية وكونه ابن الدائرة المخلص وصاحب القدرة على تقديم الخدمات كما رأينا فى كل المجالس المنتخبة وفق النظام الفردي. ولكن يقال أن النظام الفردى لم يكن عقبة أمام تطور الحياة الحزبية فى دول مثل الولاياتالمتحدة والمملكة المتحدة وهى من أبرز الدول التى تأخذ بالنظام الفردى مع الأغلبية البسيطة. هذا صحيح، ولكن الحياة الحزبية تطورت فى هذه المجتمعات إنعكاسا لما يموج فيها من تيارات فكرية وما يسودها من انقسامات اجتماعية، فحيوية الأحزاب هى التى صبغت النظام الانتخابى فى الواقع، ومن ثم لا نجد ظاهرة النواب غير الحزبيين فى هاتين الدولتين، ولا فى أى من دول الديمقراطيات العريقة. بل على الرغم من أن النظام الانتخابى فى ألمانيا يسمح لنصف النواب بأن يتم انتخابهم وفقا للنظام الفردي، فإنهم يتقدمون للناخبين باعتبارهم شخصيات حزبية، ومن ثم لا يعرف البرلمان الاتحادى فى المانيا سوى النواب الحزبيين. وإذا ما قيل أن النظام الفردى هو الذى يعرفه المصريون، وأنه نظام بسيط يفهمه الناخب. فإن هذا فى الواقع حجة ضد التطور، فلا يعنى القول أن نظاما معينا قد ورثناه عن الماضى يجب بالضرورة أن يستمر لأننا لا نعرف غيره، وخصوصا أن هذا النظام قد أفرخ لنا نواب الخدمات، أو الذين ينجحون بفضل مايملكون من مال أو عصبية، أو تلاعب بالمشاعر الدينية للمواطنين، كمايمكن أن توفق الأحزاب بين اعتبارات الانتماءات المحلية للمرشحين وتوزيعهم على قوائمها، وهو الذى سوف يمكن من تمثيل النساء والشباب والمسيحيين من خلال توافق الأحزاب على ترتيب معين لهذه الفئات داخل قوائمها. هذه الاعتبارات واضحة فى الغالب للجنة التى تقوم بصياغة نظام انتخاب مجلس النواب القادم، ولذلك فالخيار أمامها إما بدفع تطور الحياة الحزبية والتى بدونها لايقوم نظام ديمقراطي، كذلك المساهمة فى تشكيل برلمان واضح القسمات واسع التمثيل، وذلك باعتماد نظام القوائم على الأقل بالنسبة لنصف النواب، أو تبقينا أسرى نواب الخدمات وأصحاب السطوة المالية والعصبيات والتلاعب بمشاعر الجماهير بتقليص حصة القوائم الحزبية إلى أدنى حد. وعلى القارئ الحصيف أن يعرف ماذا تريده اللجنة بحسب ما تختار من بين هذين النظامين.
أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة لمزيد من مقالات د.مصطفى كامل السيد