هل يواجه الرئيس القادم موقفا اقتصاديا مشابها لتلك الحالة التى واجهت الرئيس جمال عبد الناصر طوال الخمسينيات ودفعته دفعا لإجراء تحولات اقتصادية جذرية تمثلت فيما يمكن تلخيصه بالتوسع فى دور الدولة فى الانتاج المباشر والسيطرة المركزية على مقاليد الاقتصاد الوطنى. وقبل ان نمضى فى محاولة البحث عن تصور لسيناريوهات المستقبل القريب للشأن الاقتصادى ينبغى ان نتذكر مدى التشابه فى الاسباب التى ادت لقيام كل من ثورتى يوليو 1952 ويناير2011.ومعروف ان الموقف الاقتصادى قد أخذ فى التأزم عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1945 عندما قل اعتماد الحلفاء على مصر فى تموين الحرب مما ادى الى تراجع النشاط الاقتصادى المحلى ونشأة الركود ومايصاحبه من انتشار البطالة وقلة الدخول، وهو ماعبرت عنه البيانات الاولى ل «حركة الجيش» والتى اشارت الى انتشار الفقرو الفساد وسيطرة الاجانب ورأس المال على الحكم . وبمصطلحات هذه الايام فإن اهم اسباب الثورة الاولى تمثلت فى ضعف معدلات النمو وانخفاض الاستثمارات مضافا اليها الفساد وسوء الادارة والتدخل الاجنبى وهو ماادى الى تراجع الدخول وتفشى البطالة ،وهذه هى تقريبا الحالة العامة للاقتصاد المصرى عشية الثورة الثانية ،حيث تراجع الاداء منذ تفجر مايسمى بالأزمة المالية العالمية فى سبتمبر 2008 ،و تدهورت معدلات النمو الهزيلة اصلا الى النصف وارتفع التضخم بوتيرة متسارعة مما ادى الى تآكل دخول الناس فضلا على انتشار البطالة والفساد بسبب هذه التطورات.. ولاسباب اخرى معروفة. تكاليف المراحل الانتقالية وبسبب الاختلافات الزمنية والاحوال الاقتصادية فى الداخل والخارج وعدد السكان ،فقد مرت السنوات الاولى التى تلت انتقال السلطة من الملكية الى ثوار يوليو بسلاسة اكبر على الصعيد الاقتصادى ،فلم تشهد البلاد اضطرابات مالية كالتى نعانى منها الان ،كما كان الاقتصاد صغيرا فى حجمه ولكنه مستقر ومعدلات النمو هزيلة لاتتجاوز 2% ولكن عدد السكان ايضا كان معقولا يلامس بالكاد 20 مليون نسمة وهو ماكان مناسبا لحجم الاقتصاد المتواضع . الامر الذى ظل على حاله هو استمرار السيطرة الاجنبية على النواحى الخدمية كالبنوك والتأمين وعمليات التجارة الخارجية وغيرها اضافة الى استمرار التصاعد فى معدلات البطالة التى بلغت اوجها عامى 1957 و1958 . أما فى 2011 وعقب الثورة ،وعلى عكس ماكان مقدرا ،فقد شهدت المؤشرات المالية التى اصبحت اكثر تعقيدا بفعل تطور الزمن والاحوال تدهورا مستمرا حيث ارتفع عجز الموازنة الى مستويات تاريخية بعد ان تجاوز العام الماضى 14 % من الناتج المحلى الاجمالى وزاد الخلل فى موازين التجارة والمدفوعات بسبب تراجع الصادرات نسبيا لاسباب اقتصادية وأمنية ،واغلق نحو 5 آلاف مصنع ابوابه لأسباب اقتصادية وامنية ايضا، كما ارتفعت معدلات التضخم لتتجاوز 10 % على اساس سنوى ، والبطالة لتلامس 14 % «رسميا». وكان لكل هذه المؤشرات ،وليدة الاضطرابات السياسية بالاساس ،أثرها على تآكل دخول الناس وتراجع مستويات المعيشة .. بصفة عامة. والحل « الاقتصادى » للخروج من أزمة المرحلة الانتقالية هو ببساطة عودة الاتزان للمالية العامة وعودة دوران عجلة الانتاج وتسريع معدلات النمو لتتجاوز 7 % سنويا فى اسرع وقت وفقا لتقديرات البنك الدولى حتى يتمكن الاقتصاد من تدبير 800 الف وظيفة جديدة سنويا لايقاف معدل البطالة عند مستوياته الحالية، اما اذا اردنا خفض نسب البطالة الى مادون 14 % فهذا يتطلب مزيد من الانجاز على صعيد النمو .. هذا ماتقوله القراءة الاقتصادية للمشهد الراهن . الحل الناصرى عقب ثورة يوليو 1952 تنبه الرئيس عبد الناصر مبكرا الى ان تحسين مستويات المعيشة للمصريين يأتى فى مقدمة اولويات الناس ،ويتذكر الجميع قراره التاريخى بوضع حد اقصى للملكية الزراعية بما لا يزيد على 200 فدان للفرد ثم للاسرة، وبعد ذلك توزيع فائض الاراضى على الفقراء وصغار الفلاحين وكان هذا القرار فى حد ذاته ثورة ثانية بمقاييس زمانه حيث كان الانتاج الزراعى يعادل تقريبا نحو 60 % من الناتج المحلى الاجمالى .غير ان قليلين من يتذكرون ان الرئيس عبد الناصر تنبه مبكرا لاهمية الصناعة وأنشأ فى عام 1953 المؤسسة الاقتصادية التى كانت معنية بتشجيع المصريين خاصة رجال الاعمال على ولوج هذا النشاط ،ومنذ ذلك العام ولمدة سبع سنوات تالية أخذت الثورة تغازل رجال الاعمال ورجال التجارة للتماهى مع اهداف الثورة فى رفع مستوى المعيشة للفقراء . ولسوء الحظ كانت الاستجابة ضعيفة وفى حالة البنوك كانت تقريبا معرقلة لاهداف الثورة ،وهو ما دفع الرئيس عبد الناصر لاتخاذ قراره التاريخى بتمصير البنوك وشركات التأمين والتجارة الخارجية والتى ظلت لعقود طويلة فى ايدى الاجانب والمتمصرين . وعندما لم يؤت هذا الغرض ثماره المأمولة دفع دفعا مرة اخرى الى الشروع فى تأميم المنشآت الاقتصادية كبيرة ومتوسطة الحجم ،ومنذ هذا التاريخ نشا القطاع العام المصرى بكل ماله وماعليه واستمر حتى منتصف السبعينيات يقود عملية التنمية قبل ان تتماهى سياسة الدولة مع المتغيرات العالمية وتسمح مرة اخرى لرءوس الاموال الخاصة والاجنبية بالعمل والمشاركة فى التنمية وفق قواعد وقوانين مثيرة للجدل .. حتى الآن . الاجراءات الناصرية حققت نجاحا هائلا فى النصف الاول من الستينيات حيث ارتفعت معدلات النمو الى 6 % سنويا دفعة واحدة ممااستحق اشادة صندوق النقد الدولى ،كما اصبح تعيين الخريجين الزاميا مما قضى على طوابير المتعطلين اضافة الى انجازات اخرى كثيرة غالبيتها على صعيد مكافحة الفقر وتحقيق العدالة الاجتماعية التى كانت الشغل الشاغل للرئيس عبد الناصر والحقبة الناصرية كلها. التجربة لها ايضا مشكلاتها الاقتصادية وهى باتت معروفة للجميع خاصة على صعيد قوانين العمل وتضعضع اداء القطاع العام لأسباب كثيرة وعودة معدلات النمو للبطء بعد حرب 1967 ، غير ان ابرز الآثار المترتبة على التجربة الناصرية فى الاقتصاد هى تكوين مايسمى بعقدة التأميم والتخوف من مغالاة الدولة فى التدخل بالشأن الاقتصادى .ولهذه الأسباب الكامنة فى العقول مالت استثمارات القطاع الخاص والاجنبى خلال العقود الاربعة الأخيرة الى المشروعات سريعة العائد وتلك المرتبطة بالتجارة والعقارات ،أما الاستثمارات الصناعية فقد جاءت فى معظمها ذات طابع تجميعى او تكميلى مثل مارأيناه فى صناعة السيارات التى بدأت عندنا قبل كوريا الجنوبية ومع ذلك فإن أيا من الشركات العالمية الكبرى لم تفكر فى وضع مصر على خريطة انتاج سياراتها، ولو حدث هذا لساهمت هذه الصناعة وحدها فى رفع معدل النمو بنسبة كبيرة وأوجدت مئات الآلاف من الوظائف الجديدة. تحديات أمام الرئيس الرئيس القادم مضطر الى ولوج عدد من الملفات العاجلة واتخاذ قرارات مصيرية كتلك التى اتخذها الرئيس عبد الناصر وان كانت بالضرورة مختلفة فى التوجهات ، فالعالم تغيير تغيرا مذهلا واحتياجات الناس كذلك تطورت وتعقدت وبالتالى فإن حلول الزمن الماضى لم تعد تصلح لفك المعضلات التى تواجه الاقتصاد الوطنى فى مستقبل الأيام. واذا كان من المفروغ منه ان تواجه حكومة الرئيس الجديد معضلة الشروع فى ازالة الاختلالات المالية التى نعانى منها منذ زمن طويل وتزداد تفاقما عاما بعد عام، فإن المعضلة الاساسية التى يتعين التعامل معها هو كيفية العمل على زيادة معدلات النمو بصورة سريعة وحاسمة اسوة بمافعلته اندونيسيا التى بدأت رحلتها مع النمو عقب قيام ثورتها بنحو 3 سنوات واصبحت بعد عشر سنوات اكبر اقتصاد فى جنوب شرق اسيا. وبعد التغلب على المصاعب السياسية واستعادة الامن والاستقرار فإن القوة الدافعة للدولة يتعين ان توجه لتنشيط الاقتصاد فى مختلف المجالات وهو تحد ضخم يتجاوز مساعى تعظيم الاستفادة من قناة السويس وانشاء مليون وحدة او ملايين الوحدات السكنية . نحن نتحدث عن اسواق تتفاعل مع بعضها البعض لاحداث نمو مركب وسريع بقيادة الاستثمارات الخاصة والاجنبية تحت اشراف وتوجيه الدولة مثلما حدث فى الصين ويحدث الان فى الهند وفيتنام واندونيسيا . رجال الأعمال .. وأخطاء الماضى وباستعادة الاستقرار وازالة حجة الاضطراب الامنى والذى يفترض توافره مع الرئيس الجديد فإن رجال المال والاعمال عليهم ان يتولوا زمام المبادرة فى القيام بدورهم فى تحقيق اهداف ثورة يناير، ولتكن البداية باعادة فتح المصانع المغلقة والاستثمارات المعطلة ثم استعادة الاموال الهاربة والمهربة وتقديم النموذج للاجانب ان الاسواق المصرية قادرة على أستقبال الاستثمارات الجادة والضخمة والفعالة . وعلى اتحادات الاعمال وجمعياتها أن تعى درس ثورة يوليو بأن الدولة المصرية مسئولة عن تحقيق اهداف المصريين وتطلعاتهم .. وان عرقلة تحقيق هذه الاهداف يمكن ان تكون وبالا على الجميع .