لا يؤسس النص (كالقرآن مثلاً) بذاته لظاهرة العقل النصي، بل إن نوعاً من العلاقة التى يقيمها الناس معه هى التى تؤسس لذلك العقل بالذات. إذ يبدو، وفقط، أن علاقةً ذات طبيعة إذعانية مع النص، هى ما يؤسس لبناء العقل النصي، وأما علاقةً ذات طبيعة حوارية منفتحة معه، فإنها تكون عنواناً على نوع من العقل غير النصى الذى يتعامل مع النص كنقطة بدء ينطلق منها فى فهم العالم، وليس كسلطةٍ يخضع لها. وهكذا، فرغم أن «النص» هو الواقعة الجوهرية الكبرى التى يقوم عليها بناء الإسلام كله، فإن الطريقة التفاعلية التى جرى بها تلقِّى هذا النص من جانب الجيل الأول من متلقى الوحى لم تجعل من الإسلام بناء نصيِّاً أبداً. فقد تعامل هؤلاء مع النص/ القرآن لا بوصفه سلطة يلزم الخضوع لها من دون تفكيرٍ أو محاورة، بل بما هو أحد العناصر الداخلة فى تركيب فعل معرفى يتفاعل فيه النص مع العنصرين اللازم دخولهما فى كل عملية معرفية؛ وهما العقل والواقع. ومن هنا ما قطع به على بن أبى طالب من أن «القرآن لا ينطق بلسان وإنما ينطق عنه الإنسان»؛ حيث إن نطق الإنسان عن القرآن لا يكون إلا عن فهمه الذى يدخل الواقع فى تركيبه، من غير شك. وغنيٌّ عن البيان أن هذا التصور للقرآن يكون موضوعاً لفهمٍ، يدخل الواقع فى تركيبه، هو ما يقف وراء ما مضى إليه البعض من كبار الصحابة، كعمر بن الخطاب، من تعليق بعض الأحكام التى نطق بها النص، نزولاًً على ما يفرضه منطق الواقع والعقل. وهكذا فإنه حين كانت تستجد أوضاع تغاير تلك التى قرر لها النص أحكاماً، فإن الأمر قد استلزم تفكيراً وصل، فى بعض الأحيان، إلى حد تعليق العمل بها كما فعل عمر بن الخطاب بخصوص سهم المؤلفة قلوبهم المقرر بالنص الثابت. وليس من شكٍ أبداً فى أن رجال الجيل الأول قد كانوا، فى هذا الإعمال الحاسم للعقل بإزاء ما تفرضه الأوضاع المستجدة، مجرد مستأنفين لما اتسع له نص القرآن ذاته من الانتقال بين الأحكام (فى المسألة الواحدة) بحسب ما تقتضيه الأوضاع المستجدة طوال مدة التنزيل. وحين يدرك المرء أن الأمر لم يقف عند حد تحوّل النص/القرآن بين الأحكام (فى المسألة الواحدة) بحسب ما تقتضيه الأوضاع المُستجدة، بل تعداه إلى ما قيل من أن «النصوص- بحسب ابن العربى فى (أحكام القرآن)- غير مُستوفاة فى المسألة الواحدة (كالفرائض مثلاً)، ولا مُحيطة بكل نوازلها»، فإن ذلك ما كان لابد أن يؤدى إلى اتساع المساحة المفتوحة أمام اشتغال فعل التفكير والقول بالرأي. ومن هنا أنه لن يكون غريباً أن يقول زيد بن ثابت لعبد الله بن عباس- حين اختلفا حول ميراث الأم من ابنها إن لم يكن له ولد- «إنما أنت رجلٌ تقول برأيك وأنا أقول برأيي»؛ وبما يدل عليه ذلك من أن الصحابة لم يتورعوا عن القول بالرأى فى القرآن، مراعاة لروحه المنفتحة فى التعامل مع ما يستجد من جهة، واستيفاءً لما لم تستوفه نصوصه من جهة أخرى. ولقد ارتبط ذلك بما أجمعت عليه المصادر من إقلال الصحابة الكبار فى الرواية عن النبي؛ وبما كان يمكن أن يمنحهم من النصوص ما يسد أمامهم باب التفكير بالرأي. حيث الواضح أنهم قد تحوَّطوا فى التعامل مع الروايات غير القرآنية؛ على النحو الذى أدى إلى تضييق دائرة النصوص إلى الحد الذى لم تتسع معه لغير القرآن إلا فى النادر. فقد أورد الإمام الذهبى فى «تذكرة الحفَّاظ» قال: «ومن مراسيل ابن أبى مليكة أن (أبا بكر) الصديق جمع الناس بعد وفاة نبيهم، فقال إنكم تحدثون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث تختلفون فيها، والناس بعدكم أشد اختلافاً، فلا تُحدثوا عن رسول الله شيئاً. فمن سألكم فقولوا بيننا وبينكم كتاب الله، فاِستحلوا حلاله وحرِموا حرامه». كما أورد الذهبى عن عمر قوله الصريح «جرِّدوا (اشحذوا) القرآن وأقلِّوا الرواية». بل إن المصادر تنسب إلى عمر ما يؤخذ منه أنه يرد المنع عن الأخذ بغير نص القرآن إلى الله نفسه. فقد أورد السيوطي- فى «تنوير الحوالك»- «أن عمر بن الخطاب أراد أن يكتب السنن، واستشار فيه أصحاب رسول الله، فأشار عليه عامتهم بذلك، فلبث شهراً يستخير الله فى ذلك شاّكاً فيه، ثم أصبح يوماً وقد عزم الله له فقال: إنى كنت قد ذكرت لكم من كتاب السنن ما قد علمتم، ثم تذكرت فإذا أناسٌ من أهل الكتاب من قبلكم قد كتبوا مع كتاب الله كتاباً، فأكبوا عليها وتركوا كتاب الله، وإنى والله لا أُلبس كتاب الله بشئ، فترك كتابة السنن». فرغم أن الرواية ترد عدم كتابة عمر للسنن إلى تخوُّفه من تكرار تجربة أهل الكتاب الذين تركوا كتاب الله للكتب التى كتبوها، فإنها تورد ذلك كتبريرٍ لاحق على ما عزم به الله لعمر بعد أن لبث شهراً يستخيره فى ذلك. وبالرغم من أن صدور مثل هذه التنبيهات عن الصحابيين (أبى بكر وعمر) المنظور إليهما- من جانب أهل السنة- على أنهما الأفضل والأعلى سلطةً بعد النبي، كان لابد أن يؤول إلى عدم إلباس كتاب الله بشىء من كتب الناس، فإن ما جرى فعلاً يكشف- أو يكاد- عن تكرار تجربة أهل الكتاب- التى تخوَّف منها عمر- مع المسلمين؛ وبما فتح الباب واسعاً- بعد أقل من قرنين- أمام انفجار ظاهرة الإسلام النصي. فى مقابل هذا التضييق الصارم لدائرة النصوص من صحابة النبى الكبار؛ وإلى الحد الذى بلغ بالإمام عليَّ بن أبى طالب أن يقرر أنه لا يملك مع القرآن إلا صحيفة فيها، وفقط، أربعة أحاديثٍ للنبى الكريم، فإن المسلمين المتأخرين قد راحوا- لسوء الحظ- يتهاونون فى هذا التضييق حتى آل الأمر إلى انفجار ظاهرة الإسلام النصى التى تعاظم بروزها، وبقوة، فى النصف الأول من القرن الثالث الهجري. وبالرغم من أن الشافعى كان هو الذى وضع- قبل نهاية القرن الثانى الهجري- الشروط الإبستيمولوجية التى جعلت انفجار مثل هذه الظاهرة ممكناً، فإن ظهور العوام كقوة حاكمة فى السياسة العباسية-مع نهايات القرن الثانى الهجري، وأثناء احتدام الصراع على السلطة بين الأمين والمأمون- كان هو الإطار الذى تحقق ضمنه الانفجار الفعلى لتلك الظاهرة؛ وهو ما يحتاج إلى قولٍ لاحق. لمزيد من مقالات د.على مبروك