أنا متفائل. برغم أن كل ما حولنا يدعو للتشاؤم! وأنا لست منجما, ولا أعلم الغيب, ولا أصدر عن مزاج شخصي يميل بي إلي التفاؤل دون أن يكون لتفاؤلي سند من واقع ملموس نعم. أنا ميال بطبعي للتفاؤل, أري الوردة ولا أتوقف عند الأشواك وإن أدمت يدي, بل أنا أري الوردة وهي لاتزال برعما, وأراها حتي وهي خاطر في ضمير الغصن لم يتبرعم بعد. لكني مع هذا أري الواقع وأجتهد في قراءته, وأجعله دليلي لقراءة المستقبل ورؤيته من بعيد, كما أفعل الآن وأنا أتحدث عن ثورة يناير في عيدها الأول. وأنا أعرف أن قراءة المستقبل مغامرة أقرب ما تكون للمقامرة, واجتهاد نصيب فيه ونخطئ, أو نخطئ أكثر مما نصيب, بل إن قراءة الواقع الراهن ذاته اجتهاد لا نستطيع أن نضمن نتائجه, لأن هذا الواقع ليس رقعة محدودة أو مكشوفة, وليس مستوي واحدا, وإنما هو عالم غني مختلط العناصر متعدد الطوابق مترامي الأطراف, فيه الظاهر والباطن, والواضح والغامض, والثابت والمتغير, ونحن من ناحيتنا لا ننظر جميعا بعين واحدة, ولا من وجهة واحدة, وإنما ننظر بعيون لا تحصي, ويتأثر كل منا بما نشأ عليه من أفكار, وبما يلح عليه من مطالب فيبدو له المشهد مختلفا قليلا أو كثيرا مما يبدو لسواه, فضلا عن أن الظروف المحيطة بنا تتغير وتتحول, وتأخذنا أحيانا من طرف إلي طرف, أو من النقيض إلي النقيض. نظرتنا للواقع قبل أن تشتعل ثورة يناير بيوم واحد تغيرت تماما بعد أن نجحت الثورة, والتفاؤل الذي تفجرت ينابيعه عقب هذا النجاح لم يصمد طويلا أمام القوي المضادة التي قفزت علي الثورة وقلبت كل شعاراتها رأسا علي عقب. بدلا من الدولة المدنية التي أردنا أن نقيمها علي أنقاض نظام يوليو العسكري تسعي جماعات الإسلام السياسي لإقامة دولة دينية ستكون أكثر بطشا وتخلفا. وإذا كانت الثورة قد فتحت أمامنا الطريق إلي الديمقراطية, فقد صارت الديمقراطية في يد الجماعات الدينية طريقا لاستعادة الطغيان. وبدلا من أن تكون الانتخابات البرلمانية فرصة تستعيد بها الأمة المصرية سلطتها وتؤكد وحدتها تحولت الانتخابات إلي صراعات طائفية تهدد الكيان الوطني بالتصدع والانهيار. غير أن الواقع ليس هذه التطورات السلبية وحدها, وفيه من دواعي التفاؤل أكثر بكثير من دواعي التشاؤم, سوي أن القوي المضادة أكثر خبرة من قوي الثورة وأوفر منها مالا وأقل صبرا, وهي تشعر بالخوف علي ما بقي لها من الماضي الذي كانت تملك فيه كل شيء, وتراه الآن ينسحب من تحت أقدامها, ويفلت من بين أيديها, في الوقت الذي تتسلح فيه قوي الثورة بالحق أكثر مما تتسلح بالقوة, وتعتمد علي شبابها الغض وطاقتها الحية أكثر مما تعتمد علي الخبرة, وتثق في المستقبل فلا تستعجل النصر الذي تستحقه, لأن كل ما يحدث الآن يحدث علي الأرض التي اكتشفتها الثورة, وفي الزمن الذي صنعته. فصبرها جميل, ونفسها طويل. والثورة لم تعد معجزة ننتظر وقوعها كما كان أمرها قبل أن تقع, وإنما هي الآن واقع نعيشه, وحرية نعانقها ونذوق حلاوتها, والذي تذوق طعم الحرية ولو ساعة لا يستطيع أن ينساها أو يستغني عنها إلي قيام الساعة, وإذا كنا لا نعرف السياسة كما تعرفها القوي المضادة, ولم نمارس السلطة من قبل, فنحن نعرف الثورة, وقد مارسناها وصنعناها, ولم نعد نقف في مواجهة الطغيان عاجزين عن مقاومته كما كنا قبل يناير, ولم نعد مجردين من كل سلاح, وإنما نحن نواجهه الآن وقد أصبحنا ثوارا, أقصد اننا أصبحنا أحرارا! لكن الحرية لا تتحقق بسقوط الطاغية وهدم دولته ومطاردة أعوانه فحسب, وإنما تتحقق بأن نطهر نفوسنا وأفئدتنا من ثقافة الطغيان, ونعوض ما فقدناه في الماضي القريب والبعيد من ثقافة الحرية. لأن الحرية ليست مجرد أنفلات من قيد خارجي وإنما هي ضمير حي, ووعي يقظ خلاق يملأ الكيان ويحصنه ويكسبه المناعة التي تحميه من الطغيان الذي لا يظهر دائما بوجه واحد, بل يتشكل ويتلون, ويبدل وجوهه, ويغير ملامحه. ومن التطورات الايجابية في هذه الأيام أن قوي الطغيان بجميع أسمائها وأزيائها صارت مكشوفة. وأن ثقافة الحرية التي كانت همسا يتردد علي ألسنة بعض المثقفين صارت تيارا مسموعا ووعيا تتبناه فئات ومؤسسات وأسماء لم يكن متاحا لها أن تتبناه من قبل. ولقد كان حدثا تاريخيا اهتزت له البلاد خروج النساء في ثورة 1919 يتظاهرن مثل الرجال في سبيل الاستقلال, ويطالبن الانجليز بالرحيل, وقد خلد حافظ إبراهيم هذا الحدث في قصيدته المشهورة! خرج الغواني يحتججن ورحت أرقب جمعهنه فإذا بهن تخذن من سود الثياب شعارهنه فطلعن مثل كواكب يسطعن في وسط الدجنة! ماذا كان يمكن أن يقول شاعر النيل لو عاش معنا ثورة يناير ورأي نساء مصر وفتياتها وأمهات شهدائها يملأن ميدان التحرير جمالا وعنفوانا وحرية, ويواجهن البطش, لا من الجنود الانجليز هذه المرة, بل من المصريين؟! وحين يتصدر علماء الأزهر وخطباء المساجد صفوف المنادين بالديمقراطية المدافعين عن حقوق الانسان, ألا يكون هذا تطورا جوهريا يفتح المجال أمام تجديد الفكر الديني وتثويره ووضعه حيث يجب أن يكون سندا للحرية وليس سندا للطغيان؟! ولقد كان الدفاع عن حرية الابداع قاصرا في الماضي علي الأدباء والفنانين. فاذا أصبح الأزهر يدافع عن حرية الابداع كما فعل في وثيقته الأخيرة بعد أن كان يخاصمها فهذه ثورة تساند الثورة وتصب في مجراها. والحديث عن الأزهر وشيخه الجليل الدكتور الطيب يقودنا للحديث عن الشيخ عماد عفت الذي لم يرفع صوته فحسب, دفاعا عن الحرية, ولم يوقع باسمه فقط علي وثيقة مكتوبة, وإنما وقع بدمه, وضحي بروحه, ولقي ربه شهيدا وهو معتصم مع المعتصمين أمام مجلس الوزراء. وكما فعل الشيخ عماد عفت فعل الشيخ مظهر شاهين خطيب مسجد عمر مكرم الذي يقال انه يخضع الآن للتحقيق بسبب شجاعته في التعبير عن آرائه. ولابد أن أذكر أيضا في هذا المقام كلمة الدكتور محمد البري رئيس جبهة علماء الأزهر التي يفخر فيها بأنه قبطي, ويؤكد فيها وهذا حق لا جدال فيه أن المصريين جميعا أقباط. هذه ليست مجرد كلمة. وإنما هي تعبير عن وعي جديد يميز فيه هذا العالم الجليل بين ما يجب للدين وما يجب للوطن, فلا يجور أحدهما علي الآخر. ونحن نري أن بعض الجماعات الدينية تسعي لتفرض علينا قوانين البادية ونظمها وأزياءها وسيوفها وخناجرها, وتجد مع ذلك مصريين يؤيدونها ويعطونها أصواتهم في الانتخابات. ونحن نري حملات الكراهية والتحريض والتشويه التي يتعرض لها نجيب ساويرس لأنه يشتغل بالسياسة ويريد أن يلعب دورا في حياة بلاده, ويتصرف خلال ذلك كمواطن مصري ينتمي للمصريين علي اختلاف عقائدهم, ولا يتحفظ ولا ينعزل لأنه مسيحي ينتمي للأقلية الدينية. فإذا وقف الدكتور البري رئيس جبهة علماء الأزهر يقول لهذه الجماعات إنه قبطي مثله مثل نجيب ساويرس, ومثلي أنا, ومثل المصريين جميعا فهذا تعبير عن وعي سياسي جديد وعن وعي ثقافي جديد يمتثل فيه عالم الدين لحقائق التاريخ ويبتعد عن الأساطير والأوهام التي تفرض علي الكثيرين أن يتنكروا لمصر, ويحولوا الدين إلي جنسية! ألا يبعث كل هذا علي التفاؤل؟! المزيد من مقالات أحمد عبد المعطي حجازي