ربما لا يجد المؤرخون لاحقا ماهو أحلك سوادا من صفحة الخديوى " إسماعيل" فى نهب مصر وبيع مقدراتها للأجانب إلا ما جرى فى عهد الدكتاتور "مبارك" ومع فساد حكمه من نهب للاقتصاد القومى وبيع لشركات القطاع العام تحت عنوان الخصخصة وبمقتضى الخرافات الايديولوجية لاقتصاد السوق . وهو ملف متميز حافل باتهامات جدية موثقة فى الجريمة الاقتصادية والخيانة الوطنية لم يحاكم عليها بعد مبارك ورجاله . وكتابة تاريخ مصنع مثل “طنطا للكتان والزيوت “مع الخصخصة من وجهة نظر عماله المحتجين المعتصمين طلبا لاعادة تشغيله وصالح الاقتصاد القومى هى بالقطع مهمة تختلف عن كتابة هذا التاريخ من جانب لصوص المال العام وناهبى مقدرات الشعب. وإذا افترضنا ان مؤرخا منصفا منحازا لشعبه جاء بعد سنوات ليكتب حكاية هذا المصنع فسيلاحظ أنه توسع بعد تأميمه فى مطلع عقد الستينيات من مصنع واحد بناه شركاء شوام عام 1954 ليبلغ بحلول عقد التسعينيات عشرة مصانع متنوعة الإنتاج من حبال وأخشاب وزيوت و غزل وورق وصمغ وغيرها . لكن مصانع الشركة أخذت فى التوقف واحدا تلو الآخر بعد اللحاق بقطار الخصخصة فى فبراير 2005. وهو العام الذى بيعت فيه 65 شركة عامة ليسجل أعلى نقطة على منحنى سنوات الخصخصة منذ بداية برنامجها عام 1992.علما بأن الاحصاء نفسه الذى اجراه “المركز المصرى للحقوق الاقتصادية والاجتماعية” يرصد بيع 382 شركة حتى يونيو 2009. كما سيلفت النظر ماسيقوله عمال المصنع للمؤرخ عن انخفاض عدد العمالة من 2500 عامل مثبت و700 متعاقد غير العمال التابعين لمقاولين فى عقد التسعينيات الى 1500 عامل مثبت عند لحظة الخصخصة وبعد موجات المعاش المبكر تمهيدا للبيع. ثم الى 200 عامل مثبت و300 بعقود مؤقتة بعد الخصخصة بسنوات معدودة. ولينتهى المستثمر المشترى الى الاكتفاء بتشغيل مصنعين إثنين فى وردية واحدة فقط . ولاشك أن مؤرخنا الهمام سيعثر على خبر فى أسطر معدودة بجريدة الأهرام ( الصفحة التاسعة بعدد 15 ديسمبر 1986) عن جمعية عمومية للشركة التى كانت “عامة” يشير الى تحقيق فائض فى ميزانية 85/ 1986 يقدر ب 503 آلاف جنيه والى أن زيادة الفائض جاء نتيجة لمضاعفة الإنتاج، كما سيعثرعلى خبر لاحق فى الصفحة السادسة بالجريدة ذاتها بتاريخ 30 يوليو 2003 عن سؤال من نائب بمجلس الشعب الى رئيس الوزراء كشف عن فائض قابل للتوزيع عن العام المالى 2003/2005 يقدر بخمسة ملايين جنيه، وفى كل هذا وغيره ما سيؤكد للمؤرخ مدى فساد صفقة البيع الى المستثمر السعودى .وبمقتضاها بيعت مصانع الشركة ب 83 مليون جنيه فقط،وذلك فوق أرض مساحتها74 فدانا .و قد جرى دفع الثمن البخس على أربعة أقساط خلال ثلاث سنوات، أولها 33 مليونا فقط. وفى كل الأحوال ستنتاب مؤرخنا الحيرة من غياب الأرقام الرسمية وتضارب التقديرات بشأن تكلفة فساد عملية الخصخصة برمتها. وربما توقف أمام تقدير خبراء بأن الفاتورة تبلغ مئات المليارات من الجنيهات أو تأمل تقرير للجهاز المركزى للمحاسبات بأن 20 مليارا من حصيلة البيع البالغة 50 مليارا ضائعة ولا تتوافر أى مستندات عن أين ذهبت ؟. ولاشك ان المؤرخ سيفرد صفحات عديدة عن مقاومة العمال فى “طنطا للكتان “ وغيرها دفاعا عن حقوقهم المهدرة وعن الانتاج والثروة القومية . وسيسترعى النظر كيف وقفوا وحدهم مجردين من دعم المديرين والبيروقراطية بل وضد رجال الأعمال وسلطات فى الدولة والنقابات الملحقة بالحزب الحاكم .وقفوا بمفردهم ومازالوا إلا من مساندة بعض المحامين والحقوقيين والمثقفين فى رفع الدعاوى القضائية لاعادة المصانع الى الملكية العامة.وبالنسبة لحكاية مصنعنا جرى أول اضراب فى عام 2006. ثم توالت الاعتصامات. ولم تتوقف حتى بعد حكم القضاء الإدارى فى 21 سبتمبر 2011 ببطلان خصخصة الشركة واعادتها الى احضان الاقتصاد الوطنى وعودة العاملين المفصولين والمحالين قسرا الى المعاش المبكر . وببساطة لأن حكومات ما بعد ثورة 25يناير 2011 امتنعت عن تنفيذ أحكام القضاء. بل وانحازت الى المستثمرين الأجانب . وانضمت اليهم فى الطعن على الأحكام ضد صفقات البيع الفاسدة. ولما أصبحت الأحكام نهائية كما فى حكاية مصنعنا بحلول 28 سبتمبر 2013 استمرت تماطل فى التنفيذ تحت مبررات واهية ، منها تشكيل اللجان واحدة تلو أخرى أو انتظار قرار وتمويل من الشركات القابضة التى تتبعها المصانع .وكان العديد من مسئوليها شركاء فى فساد الخصخصة. وهكذا تفتقد الحكومات الى الإرادة السياسية فى استعادة ثروات البلاد المنهوبة وتشغيل المصانع المتوقفة ، فى وقت تطنطن فيه بالحاجة الى دوران عجلة الإنتاج. كما تتهاون سلطات الدولة فى إطلاق تحقيق شامل وشفاف فى فساد صفقات البيع . وبدلا من احترام القانون واحكام القضاء المصرى ومعها اتفاقية الأممالمتحدة لمكافحة الفساد التى تعطى الدولة حق فسخ عقود البيع تروج لمبالغات حول لجوء المستثمرين للتحكيم الدولى وعواقبه. إحدى النتائج التى سيتوصل اليها كاتب تاريخ “طنطا للكتان” ان الإدارة السليمة الناجحة الرشيدة ليست بالضرورة قرينة للملكية الخاصة . لكن مؤرخنا سيكون عليه أيضا أن يرقب مصير مبادرة العمال يوم الأربعاء 19 مارس 2014 (الموافق غدا ) لتنفيذ الحكم القضائى والعودة لتشغيل المصنع المتوقف الآن تماما ،وبأنفسهم ودون انتظار لحكومة أو لشركة قابضة أو للجان . فهم أصحاب المهم والمسئولية يريدون عودة المكن للدوران والانتاج والتصدير . فهل نساعدهم أم نقف ضدهم هذه المرة أيضا؟. وعلى أية حال فإن حكاية المصنع لم تكتمل بعد، ومعه العديد من المصانع العائدة بأحكام قضائية او تلك التى تنتظر. لمزيد من مقالات كارم يحيى