فى تاريخ مصر الحديث حكايات أشبه بحواديت ألف ليلة وليلة، حكايات تكاد تكون أسطورية... أبطالها باشوات وأحياناً عبيد، ولكنها فى النهاية شكلت جزءا هاما من التاريخ المصرى، ومنها هذه الحكاية التى شغلت الرأى العام المصرى والعالمى لعدة أشهر عام 1894 وأفردت لها الصحف الإنجليزية والعالمية صفحات تحكى فيها حكاية الجواري السته اللاتى قلبن حياة رئيس مجلس شورى النواب المصرى وأنهين حياته السياسية هو وإثنين من كبار باشوات مصر فى ذلك الوقت.... والحكاية باختصار كما نقلتها The Graphic إحدى أشهر الجرائد الإنجليزية فى عددها الصادر فى 6 أكتوبر 1894 إن مصر كلها كانت تتحدث عن قصة ستة (6) من الجوارى هن (سعيدة وحليمة وزنوبة وفاطمة ومراسيلة وزنوبة) كن قد وصلن الى مصر المحروسة (القاهرة) قادمات من السودان والحبشة برفقة مجموعة من النخاسين تمهيدا لبيعهن سرا حيث أن مصر كانت قد وقعت على المعاهدة التى تحظر الاتجار في الرقيق فى 4 أغسطس عام 1877، ورغم توقيع هذه المعاهدة إلا أن عمليات الاتجار فى الرقيق والعبيد استمرت مما استلزم انشاء مصلحة لرعاية شئون الرقيق وبحث أحوالهن وللتأكد من تطبيق القانون كان على رأسها ضابط إنجليزي يُدعى «شيفر بك» كان من مهامه ملاحقة تجار الرقيق وتقديمهم للعدالة وقد تمكن من تحرير ما يقرب من 15 ألف عبد وجارية منذ عام 1882 وكانت سلطاته تمتد من وادى حلفا وحتى الاسكندرية وكان عدد قواته يصل الى 400 رجل على أحصنه وجمال. وفى ظل هذه الأجواء وصلت الجواري سرا الى مصر وبدأ النخاسون عرض بضاعتهم الممنوعة واستطاعوا الوصول الى أحد أكبر وأهم الباشوات فى مصر هو على باشا شريف الذى تولى رئاسة مجلس شورى القوانين (النواب) فى الفترة من 7 سبتمبر 1884 وحتى 24 سبتمبر 1894 وعرضوا عليه البضاعة وبدلا من أن يرفضها الباشا الذى كان من مهامه وضع القوانين والتأكد من تنفيذها إذا به يقبلها ويعاينها فى جنح الظلام ويشترى ثلاثة منهن (حليمة، فاطمة وزنوبة) ويدفع ستون جنيها ثمنا لهن ضاربا بالقانون عرض الحائط، أما الجاريات الثلاثة الباقيات فقد اشترت إحداهن زوجة الدكتور عبدالحميد الشافعي أحد أشهر أطباء هذا الزمان وبيعت الثانية لحسين باشا واصف مدير مديرية أسيوط واستقرت الثالثة والأخيرة فى عزبة محمد باشا الشواربي عضو مجلس النواب وأحد أعيان قليوب.. وهكذا ظن النخاسون أن العملية قد تمت بنجاح. ولكن تأتى الرياح بما لا تشتهى السفن فقد وردت أنباء هذه العملية الى شيفر بك الذى كانت علاقتة متوترة برئيس مجلس شورى النواب فوجد الفرصة سانحة وبشكل قانونى للإنتقام فالصيد هذه المرة ثمين (رئيس المجلس نفسه وعضوين في المجلس وطبيب مشهور) فوجه حملة للقبض على النخاسين الذين اعترفوا تفصيليا ببيع الجاريات إلى الباشوات المصريين وبعدها تم القبض على الدكتور الشافعي الذى اعترف بكل التفاصيل بمنتهى السهولة ومن ثم صدرت التعليمات باستدعاء على باشا شريف والتحقيق معه ومع بقية الباشوات. ولم يهتم «شيفر» الإنجليزي بمركز على باشا شريف وكأنه يريد إذلاله ووجه له تهمة الاشتراك في الاتجار بالرقيق، فطلب الباشا الاتصال برئيس النظار نوبار باشا لكن طلبه رفض ويقال أنه أمضى ليلته فى الحبس مع اللصوص والمجرمين دون أدنى إعتبار لمركزه أو حتى كبر سنه هو وواصف باشا والدكتور الشافعي أما الشواربي باشا المتهم الأخير فإن الجنود الذين ذهبوا لإلقاء القبض عليه لم يجدوه في منزله بالقاهرة وقيل لهم إنه موجود في عزبته في قليوب، فأرسلت إشارة عاجلة لضبطه وإحضاره. وكادت حياة على باشا شريف تتحطم لولا أن أسر الى أحد أبنائه بضرورة إحضار الورقة السحرية التى يحتفظ بها فى خزانته الخاصة والتى تفيد بأنه يتمتع بالجنسية الإيطالية، وبالفعل عثر عليها ابنه وتوجه بها على الفور الى القنصل الإيطالي الذى خاطب الحكومة المصرية والضابط الإنجليزى بضرورة الإفراج عن الباشا بإعتباره أحد رعايا دولة إيطاليا وهو ما تم بالفعل وتم إطلاق سراح الباشا الذى أنقذته جنسيته الإيطالية الصورية بينما لم تشفع له وظيفته المحترمة ورتبة الباشوية التى يحملها.. أما واصف باشا والدكتور الشافعي فقد أفرج عنهما بضمانة شخصية من أحد الباشوات. وفى سبتمبر 1894 تشكلت محكمة عسكرية لمحاكمة كل من اشترك في الجريمة (النخاسين والجواري والباشوات) وأصبحت قاعة المحاكمة محط أنظار العالم كله وتابع أخبارها صحفيين من كل مكان لتتحول القضية الى «محاكمة القرن» وانقسم الجميع بين معسكرين أحدهما يدافع عن شراء الرقيق والجواري باعتباره عمل حضارى بينما رأى أخرون أن شراء الجواري عمل يدل على الوحشية والاستبداد ويقول صلاح عيسى فى كتابه «حكايات من دفتر الوطن» أن حسين باشا واصف والشواربي باشا والدكتور الشافعي وقفوا داخل قفص الاتهام بجوار النخاسين الأربعة والمرشد الخائن والسمسار اليهودي وصاحب العربخانة، في حين سقط على باشا شريف قبل ذلك بأيام متأثراً بأزمة قلبية حادة، وتأجلت محاكمته إلى حين شفائه. وقد أكد دفاع المتهمين من الباشوات أن الإثم هو الاتجار في الرقيق فقط، أما الشراء فلا يعاقب عليه القانون لأن المشتري يقدم خدمة للجارية إذ ينقلها من حياة قاسية الى حياة رغده. وقد استغرقت «محاكمة الباشوات» نحو عشرة أيام ثم صدر الحكم ببراءة حسين باشا واصف ومحمد باشا الشواربي، أما الدكتور عبدالحميد الشافعي فقد حكم بحبسه خمسة أشهر بسبب اعترافه، كما صدرت أحكام على النخاسين وصلت إلى السجن عدة سنوات، و طُلِبَ من على باشا شريف كتابة اعتراف مُذل بخط يده بالخطأ الذى إرتكبه طالبا العفو والسماح وبالفعل سامحه الخديو عباس حلمى الثانى وأصدر أمرا بالعفو عنه وبعدها قدم استقالته من رئاسة مجلس شورى القوانين بدعوى ظروفه الصحية ولزم بيته حتى مات بعد ذلك بعامين إثر أزمة قلبية. أما الجواري الستة فقد انقطعت أخبارهن بعد المحاكمة فلم يُعرف أين ذهبن وهل عدن الى بلادهن أم قنعن بالعودة الى القصور التى خدموا فيها، ولكن الثابت تاريخيا ان هذه القصة أثرت كثيراً فى الوجدان المصرى وفى العلاقات المصرية الإنجليزية... فقد إعتبر الشارع المصرى أن الإنجليز حاولوا إذلال رموز مصر تحت دعوى المدنية والحضارة والإنسانية وهو ما لم يصدقه المصريون فى ذلك الوقت . الطريف أن على باشا شريف نفسه قد أعتق بعد هذه الحادثة جارية أخرى كانت تعمل لديه أسمها «خوشيار» مرضاة لوجه الله وتحررت وثيقة بذلك وتم توجيهها لقلم عتق العبيد وبموجب هذه الوثيقة أصبحت خوشيار حرة كسائر المسلمين.