هل ما يجرى فى أوكرانيا من صراع له انعكاسات على الأوضاع فى الشرق الأوسط ؟... تتجاوز المسألة الأوكرانية فكرة الانتقام الأمريكى السريع الذى تم تدبيره على عجل للقصاص من روسيا، بسبب مواقفها الداعمة للقوى الجديدة الوليدة فى الشرق الأوسط، غير أن ذلك لا ينفى أيضا وجاهة القول بأن مواقف روسيا من سوريا ومصر وليبيا والمملكة العربية السعودية، قد عجلت بلحظة القصاص الأمريكى . لم تكن أوكرانيا فى واقع الحال بعيدة عن المخططات الأمريكية تلك التى تتشابه مع مخططات الربيع العربى المزعوم، وهو الأمر الذى أشارت إليه مصادر بحثية واستخباراتية عدة، حتى داخل الولاياتالمتحدةالأمريكية نفسها، من عينة مركز «ستراتفور»، وجميعها أشارت إلى الدور التخريبى الهدام الذى قادته واشنطن ضد «كييف» وقد اعتبرت أن ما جرى فى الأيام الماضية، يعد بمثابة رسالة تحمل إنذارا بالأسوا القادم، لاسيما أن روسيا كانت الحاجز والمانع الذى حال دون انفراد واشنطنبسوريا وتوجيه ضربة عسكرية لها، وموسكو كذلك يجب أن تدفع الثمن من وجهة النظر الأمريكية لأنها دعمت ثورة المصريين فى 30 يونيو، وهى التى بات المصريون يتطلعون إليها من جديد كحليف وصديق استراتيجي، وروسيا كذلك غير مرض عنها بسبب مباركتها للتحالف المصرى السعودى الجديد، الذى يرفض الارتباك الواضح والفاضح لإدارة أوباما فى الشرق الأوسط، والكوارث التى جلبها هذا التردد على شعوب المنطقة. وباختصار القول يمكن القطع إن الدور الروسى الجديد فى الشرق الأوسط قد أسهم إلى حد بعيد فى تغيير الصورة الجيوسياسية فى المنطقة، ولهذا يمكن قبول فكرة الدعم الأمريكى السريع للقوى الأوكرانية التى تدين بالولاء للاتحاد الأوروبى والولاياتالمتحدة، والتى تلعب دور مخلب القط والخنجر فى خاصرة روسيا . هل كان على واشنطن وبروكسيل العمل سريعا فى الحقل الأوكرانى حتى تصل الرسالة كذلك لقادة وزعماء الشرق الأوسط كى يعيدوا ترتيب أوراق تحالفاتهم، مستبعدين روسيا منها انطلاقا من الرهان على عدم مقدرة موسكو فى الوقت الراهن على التفرغ لغير الملف الأوكراني؟. خذ إليك، ما كتبه «دنيس روس» مدير إدارة التخطيط السياسى فى وزارة الخارجية الأمريكية سابقا، عبر مجلة «نيوريببليك» الأمريكية، حيث اعتبر أنه على واشنطن فرض عقوبات اقتصادية وسياسية ضد روسيا وتقديم دعم اقتصادى قوى لأوكرانيا، حتى يدرك العرب والشرق أوسطيون أن يد أمريكا لا تزال قوية، وأنها لن تتراجع عن قيادة العالم، ولن تسمح لبوتين وأنداده بتجاهل المعايير الدولية والاستناد إلى القوة الغاشمة كعملة وحيدة فى الميدان الدولي. الاستحقاقات الأوكرانية على الأحداث الشرق أوسطية تحمل ولاشك علامة استفهام مؤكدة «هل ما يجرى فى أوكرانيا سينعكس بالسلب على الحضور الروسى العائد من جديد إلى العوالم والعواصم العربية كما تبدى المشهد مؤخرا؟ ربما يكون من المبكر بالفعل القطع بالجواب، والذى يتراوح بين اتجاه يذهب إلى أن الأزمة سوف تبعد موسكو بصورة مؤقتة عن الملفات الساخنة، لاسيما وأن نظام بوتين سوف يكرس جل اهتمامه للداخل الروسي، حيث أن ما جرى فى «كييف» يخشى أن يكون بمثابة جرس إنذار لسيناريو معد بالفعل لإحداثه داخل روسيا نفسها للخلاص من القيصر الروسى الجديد الذى بات مزعجا للغرب عامة وللعم سام خاصة. مذاهب أخرى تذهب إلى أن الأزمة الأوكرانية ستنتهى سريعا فلا أحد يريد إشعال حرب باردة أو ساخنة جديدة حول العالم، خوفا من انهيار اقتصادي، قبل الخوف من المواجهات العسكرية، وعليه فإن خطط التعاون العربي، الشرق أوسطى مع روسيا لن تتأثر كثيرا فى الفترة المقبلة. على أن المثير كذلك فى مشهد الاستحقاقات الأوكرانية هو أنه لا يقف عند خطوط طول وعرض الدول العربية فقط، بل ينسحب كذلك على إسرائيل والملفات الساخنة فيها، ويلفت النظر فى هذا السياق، أن تل أبيب لم يصدر عنها تصريح واحد إبان الأزمة، وبدا واضحا أنها تبذل قصارى جهدها للنأى بعيدا عنه.. لماذا؟. ربما لأنها لا تريد أن تغضب الحليف والربيب الأمريكى من جهة، ولا تتطلع إلى إشكاليات مع موسكو التى تلعب دورا بالغ الأهمية فى الملفين الإيرانى والسورى على حد سواء. غير أن اليمين الإسرائيلى قد خرج من الأزمة الأوكرانية بقيمة سلبية باتت تغلف السياسات الأمريكية، وعند هؤلاء أنه كان من المفترض أن ترسل واشنطن ولندن قوات لحماية أمن أوكرانيا من احتلال روسى متوقع، إلا أنه من الواضح أنهما لا ينتويان ذلك، وروسيا تعلم أن القوى الغربية ستتخلى عن دعمها لأوكرانيا وستسمح لموسكو بتفتيتها، وعليه فإن أى وعود أمريكية لإسرائيل بضمان حمايتها مستقبلا مقابل موافقتها على إقامة دولة فلسطينية منزوعة السلاح يعد بلا قيمة. الدرسى الأوكرانى حكما فى مبتدئه وخبره لم ينضج بعد، لكن الحقيقة التى تتأكد وتترسخ يوما تلو الآخر فى عالمنا هى أن الجغرافيا السياسية تشكل العالم الجديد بصورة سريعة، وأنه إذا كان الناس والأفكار يؤثرون فى الأحداث، فإن الجغرافيا تحددها إلى حد كبير، على حدود روسياوأوكرانيا، كما تحددها فى حالة النزاع الفلسطينى الإسرائيلي، وعليه فإنه الآن أكثر من أى وقت مضي، لكى نفهم الصراعات الآتية، فإنه آن الأوان أن ننفض الغبار عن مفكرى العصر الفيكتورى الذين عرفوا العالم المادى أكثر من غيرهم. لمزيد من مقالات اميل أمين