الفن ليس للترفية فقط كما يعتقد البعض... بل هو السبيل لتهذيب النفوس وتنمية الملكات العقلية والابتكاريه إذا ما وضعت فى مسارها الصحيح. وعلاقة الإنسان بالفن التشكيلى تبدأ منذ الطفولة وداخل الأسرة باعتبارها النواة الأولى والأساس فى التربية والتوجيه وتتعمق تلك العلاقة فى المدرسة لتأخذ مجالا أوسع وفكرا أشمل ورؤية جمالية لكل شئ يقودها منهج متكامل للتربية الفنية مواكب للحداثة والتطور التكنولوجى مما يعزز تعاليم الجمال عند الصغار. والمؤسف أن ذلك الدور أصبح مهملا سواء داخل الأسرة أو فى المدرسة لأسباب عدة يجب إزالتها لإحياء قيمته الإبداعية ... فكيف نستعيد ذلك الدور؟ وأين السبيل للنهوض بالتذوق الجمالى فى حياتنا ؟؟ فى البداية يطالب الناقد صبحى الشارونى - الأسرة المصرية بتنمية مشاعر الطفل نحو الجمال وضرورة الابتعاد عن مواطن القبح والتأكيد على الجمال فيما يتعلق بالجماليات الفنية والتركيبات اللونية المتجانسة فى البيئة المحيطة به. ويضيف ان من أهم وظائف الأسرة الحث الدائم على عدم التقصير فى عملية التجميل والمشاركة فيها حتى تتربى عنده ملكات جمالية تظهر فى ملبسه وسلوكه. فالمجتمع يرتقى جماليا بارتقاء الذوق الفنى والتعليمى لأبنائه وذلك من خلال أسلوب التوجيه والتحفيز. كما يرى ان الأسرة الناجحة تحرص على اصطحاب أطفالها إلى المتاحف ودور العرض لتنمية مداركهم الفنية داخل إطار جمالى إبداعي. فضلا عن حماية الصغار من أى اتجاهات متطرفة ناتجة عن الخلل فى استخدام البعض للخطاب الدينى بصورة غير صحيحة. تعاليم الجمال ... منذ الشهور الأول ويقول الدكتور محمد شاكر فى كتاب «قيمة الوعى ونبوءة العاطفة» إذا كان الشكل فى طبيعة التأثير يتقدم على المضمون فإن الجانب الخاص بلغات الفن وتقنياتها يكون هو الدرس الأول فى أسس التنمية البشرية، ليبدأ ذلك المعنى فى عطائه منذ الشهور الأولى لعمر الإنسان، حيث تتشكل الركيزة الأولى لأصول التربية الجمالية وفضيلة التذوق الفنى من العناصر المرئية والمحيطة حول الطفل بتنوع الألوان وعلاقتها بالإضاءة المستخدمة ودرجاتها ومدى علاقة ذلك بعلم التوافق وكذلك المستوى المتزن فى ملامح الأمكنة وعلاقتها بأسس التصميم وتعاليم الجمال. معارض افتراضية وفنون تفاعلية للطفل ويشير الدكتور محمد إسحاق - عميد كلية التربية الفنية – جامعة حلوان إلى أهمية الفن فى بناء وتكوين شخصية الإنسان مؤكداً على دور الأسرة الفعال بين ممارسة الفن وتذوقه عند أطفالنا، فالمتأمل لموقف الطفل يقف أمام تساؤل: لماذا لا يتذوق الطفل اللوحات ولا يزور المعارض الفنية؟ الأمر يرجع كما يشير إسحاق إلى انشغال الطفل بالتكنولوجيا الحديثة فهو يجلس مع نفسه دوما منعزلا فى عالم الكترونى مما يؤثر سلباً على مشاعره وتكوينه، فهو فى عالم لا يتيح له حتى ممارسة الأعمال الفنية فضلا عن ضياع البعد الاجتماعى، فذلك هو عالمه الجديد الذى يعيش بداخله، وهاهى اللغة الجديدة التى يحتاج إليها فى ممارسة وتذوق الفن، أنها إشكالية جديدة لدور الأسرة ودور الفن، ليصبح أمامنا موقف جديد لإحجام الطفل عن ممارسة الفن ، مما يستدعى وسائط وأساليب جديدة للتواصل معه قد تكون عن طريق العرض الالكترونى والمعارض الافتراضية والفنون التفاعلية التى يكون له دور فيها. المردود الايجابى..وتعديل السلوك وتقول الدكتورة ثريا حامد خبيرة التنمية البشرية وأستاذ مساعد بجامعة حلوان: بقدر ما ندرب الطفل على التذوق الفنى بقدر ما نحصل على مواطن مثقف محافظ على الجمال، فالتذوق الفنى ينمى الإحساس الجمالى والإدراك البصرى عن طريق الإحساس باللون، الخط، المساحة ، الحجم والبعد أيضا الإدراك اللمسى عن طريق الملامس، فالتذوق الفنى يساعد الطفل على اكتشاف النظم والحقائق الموجودة فى الكون ، وقيم الاتزان والوحدة والإيقاع. كما أن ممارسة الفن تساعد على نمو القدرات العقلية للطفل حيث تتطلب ممارسة الفنون قوة الملاحظة والتخيل والتذكر والإدراك. فالإنتاج الفنى لا يخلو من تلك العوامل أو من أكثرها، والطفل حين يمارس الفن يستدعى خبراته السابقة ويتعرف على خبرات جديدة وهذا بالتالى يقوى ذاكرته وينمى قدرته الخيالية، أيضا ممارسة الفنون تؤثر على الجانب النفسى للطفل حيث يعتبر الفن ضرورة للتنفيس على الانفعالات السلبية ، وذلك من خلال مشاركته الايجابية فى الأنشطة الفنية لذا يجب على الآباء ان يهتموا بمشاركة الطفل انفعالاته وتشجيعه على التعبير عن نفسه من خلال الفن ليتخلص من الضغوط النفسية مما يدعم الثقة فى النفس ويقلل من العنف، كما أن الفن ينمى الاتجاه النقدى عند الأطفال من خلال المحاورة حول الأعمال وإيضاح جوانب القصور والقوة فيها ومواطن الجمال ، وتعويدهم على النقد البناء وحرية التعبير وتقبل الرأى الأخر مما يحارب التطرف الفكري. أما عن المدرسة ودورها التنويرى الذى تلعبه فى تعاليم أصول المعرفة والجمال على المدى الأدق والأوسع والذى للأسف أصبح فى طى النسيان لما تحويه من بلادة فى المناهج وخلل فى المنظومة التعليمية ككل . يشير الدكتور محمد إسحاق إلى أن التربية الفنية فى أبسط تعريفها هى التربية عن طريق الفن والتربية تعنى تعديل السلوك ، يعرف ذلك جيل الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين حيث كان الوعى بدور الأنشطة المدرسية وعلى رأسها حصة التربية الفنية والتى تلاشت الآن مع عدم وجود حجرة للتربية الفنية وعدم تطوير مناهجها ومؤلفاتها وممارسة التلاميذ للأعمال الفنية بمجالاتها المتنوعة والتى تتناسب مع جميع الميول والاتجاهات الفنية لهم. إن التربية الفنية ليست الغاية منها تعليم الرسم والفنون ومحاولة تربية الفنانين.... بل هى مادة تنمى الخبرات والملكات والقدرات العقلية والخيالية والمهارية والابتكارية، لقد غاب الوعى بقيمة التربية الفنية فى مدارسنا ومنازلنا ومناهجنا ولدى المسئولين عن التعليم وسقط مع ذلك الكثير من القيم والسلوكيات التى يحتاج إليها المجتمع. إنها دعوة للقائمين على التعليم قبل الجامعى إلى الوعى بأهمية ودور التربية الفنية والأنشطة الأخرى فى بناء وتكوين المواطن المصرى بإعادة دورها وحجراتها ومناهجها وحصتها وإعادة درجاتها إلى المجموع كما كانت من قبل ، ولنفتح المجال أمام التلميذ لاختيار المجالات والأنشطة المتعددة بأن تكون درجات للتميز ومجالا للتفوق واكتشاف الذات. خلل المناهج وفشل منظومة التربية الفنية وتقول مدرسة تربية فنية بإحدى المدارس التابعة لإدارة شمال الجيزة التعليمية . طلبنا مراراً وتكراراً الالتفات إلى تلك المشكلة من المسئولين المعنيين ولكنها جاءت دون جدوى، فمازال العزوف عن حل تلك المأساة هو سيد الموقف، لتبدأ من مناهج عقيمة تجاوزت العشرين عاما من إعدادها ولا تنتهى بتعسر فى وجود خامات وحجرة للتربية الفنية فضلا عن كثافة الفصول وواقع اللا مبالاة الذى يسيطر على التلاميذ وذويهم جراء عدم دخول تلك المادة فى المجموع اللهم الا الطالب الموهوب والذى يسعى من داخله للمعرفة والتعلم. أيضا ضرورة رفع الدخل والنظير المادى لمعلم التربية الفنية أسوة بغيره من المعلمين. العنف والتخريب أحد سلبياته وتقول الدكتورة ثريا حامد: لغياب دور التربية الفنية فى المدرسة مردود سلبى على الأطفال ، فعدم ممارسة الفنون فى المدارس يخرج عقولاً تفتقد القدرة على الابداع والتفكير الابتكارى وتعتمد فقط على الحفظ والتلقين، كما أن النصف الأيمن من المخ المسئول عن الابداع ينمو من خلال ممارسة الفنون المختلفة .أيضا يجب الانتباه الى أن ظاهرة العنف والتخريب التى نراها اليوم فى بعض الشوارع وعلى الجدران وعلى بعض التماثيل وعدم احترام قيمة الفن والجمال هى نتيجة لتدنى دور الفن فى المدرسة وإهمال حصص التربية الفنية والموسيقى والأنشطة المختلفة مثل الشعر، المسرح والكشافة والمسابقات الفنية المختلفة التى كانت تقام فى المدارس. وأخيراً فالفن يشكل وجدان الشعوب ويسهم فى بناء شخصيتها السوية البعيدة كل البعد عن التعصب والعنف والمحملة بكل سمات التسامح والمحبة للحياة فالفن قد امتزج مع التاريخ ليصنع الحضارة.