فتي ضئيل.. نحيل الجسد.. شامخ الكبرياء.. متيقظ المشاعر.. رهيف الإحساس.. مشبوب العاطفة.. متوهج الروح.. تأثر بطبعه علي الظلم.. قيثارة عزفت أعذب الألحان الشعرية ورحلت في ربيع العمر. . لكنه لم يترك عالمه العربي إلا وقد بعث فيه حب الحياة الذي لا ينفصل عن حب الأوطان... فكان كالشهاب الذي مر ساطعا في سماء الشعر.. لكنه استحال في نفوس كل الثائرين إلي شمس ساطعة تضيء العتمة وتستجلي المصاعب بقوة الإرادة التي تفل أعتي الطغاة والمتجبرين والمستعمرين.. لم يتجاوز عمر هذه العبقرية الشعرية إلا ست سنوات.. فأبو القاسم الشابي ولد عام1909 ونظم الشعر وهو في الخامسة عشرة وتوفي في الخامسة والعشرين من عمره.. لذلك أطلق عليه البعض رامبو العرب إشارة للشاعر الفرنسي الذي فاضت قريحته الشعرية بأعذب الأشعار وهو دون العشرين.. ولد الشابي في ضاحية الشابية بمدينة توزر جنوبتونس... تعلم والده في الأزهر الشريف وأقام بمصر سبع سنين وكان قاضيا شرعيا.. أبوالقاسم أكبر أبنائه... ثالوث حياته العملية منحصرا بين المحكمة والمسجد وأسرته, وفي هذه البيئة الفكرية والأدبية والدينية التي كانت تحيط به نشأ أبو القاسم وفهم معني الرحمة والحنان.. وأدرك أن الحق هو خير ما في الوجود كما علمه والده علي حد تعبيره تهيأ له التنقل بين مدن وضواحي تونس وفقا لطبيعة عمل الأب... فامتلأت جوانحه عشقا للطبيعة الغناء والمروج الخضراء والسماء الصافية والثلوج البيضاء وكل العطايا الإلهية التي أسبغها الله علي تونس الخضراء ذات التاريخ والأسرار, وقد أسهم ذلك في إثراء تجربته الحياتية, لذلك كانت تونس حاضرة بكل تجلياتها في شعره.. حتي إننا لم نعرف شاعرا ارتبط اسمه بتونس وذاعت صيته.. يقول الشابي! كلما قام في البلاد خطيب موقظ شعبه يريد صلاحه أخمدوا صوته الإلهي بالعسف أماتوا صداحه ونواحه ألبسوا روحه قميص اضطهاد فاتك شائك يرد جماحه هكذا المخلصون في كل صوب رشقات الردي إليهم متاحه أنا يا تونس الجميلة في لج الهوي قد سبحت أي سباحة شرعتي حبك العميق وإني قد تذوقت مره وقراحه لا أبالي.. وإن أريقت دمائي فدماء العشاق دوما مباحه ضيع الدهر مجد شعبي ولكن سترد الحياة يوما وشاحه درس شاعرنا في جامعة الزيتونة واطلع علي الثقافة الغربية المترجمة فلم يكن يعرف لغة أجنبية فقرأ التراث بعين ناقدة... رافضة التكلس والجمود وبدأ ينشر أشعاره بصورة لافتة في المجلات التونسية عام..1926 وفي العام الذي يليه أصدر كتابه النقدي الشهير الخيال الشعري عند العرب الذي وضعه في مسار الإصلاحيين لكنه عرضه للنقد لتحامله علي التراث ككل لأن التراث جزء من أي عملية تجديد بلاشك.. تأثر الشابي بأشعار لامارتين ومدرسة شعراء المهجر وكان عاشقا لجبران خليل جبران.. وقد ألقي هذا العشق بظلاله في أشعاره التي تحفل في كثير من الأحيان بعبارات جبرانية مثل تعبير أبناء الحياة ولم يكن تأثره بجبران في الأداء فقط ولكن في عمق أفكاره الفلسفية.. وشغفه الأكبر بالطبيعة الرومانسية والانزواء والعزلة.. والاحتفاء بالذات لأنها رفيقته الدائمة في الملمات. متوحدا بعواطفي ومشاعري وخواطري وكآبتي وسروري قدر لمصر أن تكون سببا مباشرا كعهدها دائما في شهرة الشابي فقد كان شاعرنا يراسل مجلة أبوللو التي كان يترأسها د.أحمد زكي أبو شادي كمجلة أدبية وجماعة شعرية ذائعة الصيت تضم أعلام الأدب والفكر في العالم العربي... وفي يناير عام1934, أعلن د.أبو شادي عن عزم الجماعة إصدار ديوان الشابي ديوان الحياة وشرع في نسخه بنفسه لكن القدر قال كلمته وطويت الصحف وجفت الأقلام في أكتوبر من نفس العام.. وخفت هذا الصوت الملهم للثورات العربية عن عمر يناهز26 عاما. في أشعار هذا الفتي الذي كان يأوي إلي الجبال كما نصحه الأطباء للاستشفاء من مرض القلب.. استمد صلابته وصهرته الآلام وفجعته في زوجته وحبيبته في قصيدة مأتم الحب.. مات من تهوي! وهذا اللحد قد ضم الحبيب فانك يا قلب بما فيك من الحزن المذيب أيها الحب أنت سر بلائي وهمومي, وروعتي وعنائي ونحولي, وأدمعي وعذابي وسقامي, ولوعتي وشقائي وفي أشعار الشابي أصداء واضحة من قراءاته للعقاد الذي كان يكن له إعجاب خاص ويصفه بالكاتب الجبار وكذلك المازني وميخائيل نعيمة... حيث نلمح آثار الحكمة وزخم التجربة بالرغم من عمره القصير.. إلا أن حياته كانت مليئة بالأحداث والمفاجآت التي فجرت ينابيع الألم والتأمل... ففي قصيدته فلسفة الثعبان المقدس يشير إلي فلسفة القوة المثقفة التي ينتهجها الاستعمار ويحاول بها إغواء ضحاياه وابتلاع قوتهم التي تتجسد في قوميتهم من خلال سياسة الإدماج.. رحمه الله وكأنه يتحدث عن العولمة قبل أن تصبح أمرا واقعا... وهي تضع غلاله من مسميات براقة توحي بالخيال والأوهام والمساواة المزعومة التي يضنون بها علي الآخرين فيقول: ولتشهد الدنيا التي غنيتها حلم الشباب وروعة الإعجاب إن السلام حقيقة مكذوبة والعدل فلسفة اللهيب الخابي لا عدل إلا إن تعادلت القوي وتصادم الإرهاب بالإرهاب فتبسم الثعبان بسمة هازئ وأجاب في سمت, وفرط كذاب يا أيها الغر المثرثر, إنني أرثي لثورة جهلك الثلاب وعن طريقته وأسلوبه في كتابة الشعر الذي لم يكن يستنزله يقول زين العابدين السنوسي: كان الشعر يفيض عليه ويهاجمه ويمنعه من الراحة والنوم... فيصوغ القصيدة بيتا بيتا في الليل... ثم ينام مطمئنا... حتي إذا استيقظ في الصباح وجدها علي طرف لسانه وينسخها عن ذاكرته والعجيب أنه إذا نسي سطرا فلم يكن يرضي أبدا أن يعوضه وكان يفضل أن تظل القصيدة بتراء ويدل كلام السنوسي علي مدي صدق هذا الشاعر العظيم الذي كتب بمداد القلب دافعا الشعوب العربية للاستيقاظ من خدر الكسل والقنوط... فجلجلت أشعاره كصليل السيوف مرددة أصداء قلبه وهو يقول: ومن يتهيب صعود الجبال يعيش أبد الدهر بين الحفر هكذا اخترق الواقع منذ أكثر من ثمانين عاما... بلغة شعرية تمخض عنها جيل بأكمله عرف باسم جيل إرادة الحياة وهم أنفسهم أبناء الغد والمستقبل كما كان ينعتهم.. أما عبدة الماضي.. فهم أبناء الموت والقبور... كتب الشابي عن الحب وحظيت المرأة بمكانة سامية في نثره وأشعاره فهي بحر عميق تختلف فيه الأضواء والظلمات وكان مناصرا لصديقه الشاعر الطاهر الحداد, في موقفه من المرأة والدعوة لتحريرها في كتابه الشهير المرأة في الشريعة والمجتمع. كتب الشابي يوميات هي أشبه بالخواطر التي تكشف الكثير من النقاب عن تلك الجمرة التي ظلت مشتعلة في وجدانه حتي النفس الأخير... فتتكشف رهافة الحس... موطن الداء والدواء في كل كتاباته.. فهذه الرهافة هي التي جعلته متحفز الأعصاب... ينبض كيانه بالحياة ويحفل بكل صغيرة وكبيرة حتي ثقلت علي نفسه أعباؤها فكتب في عام1930 في تلك الوريقات يقول: الآن أدركت أنني غريب بين أبناء بلادي.. وليت شعري هل يأتي ذلك اليوم الذي تعانق فيه أحلامي قلوب البشر, فترتل أغاني أرواح الشباب المستيقظة.. يقولون حدثنا عن الحقيقة وخلنا من خطرفة الخيال وهل حدثهم قلبي عن غير الحقيقة منذ علمته الحياة الكلام؟ ويقولون: صف لنا الحياة, وهل وصفت لهم غير الحياة منذ غنيت لهم أناشيدي, ولكني حين وصفت لهم الحياة, لم أصفها من نواحيها القريبة الواضحة, وإنما وصفتها من نواحيها البعيدة الغامضة المحجبة بالضباب. فيما يري د.عبداللطيف عبدالحليم أو الشاعر أبو همام: أن الشابي كان برقا خاطفا سرعان ما انطفأ لكنه لم يكن برقا كاذبا, وإنما أعقبه غيث منهمر, ومن عادة البروق أن تسطع, وهكذا كان الشابي إذ سطع في دنيا الأدب علي غير انتظار, وكانت قصيدته التي نشرها في أبوللو سنة1933 قبل وفاته بعام صلوات في هيكل الحب إيذانا وبشري بشاعر لفت إليه أسماع العالم العربي كله, وتساءل الناس عن هذا الشاعر ولم يكونوا يدرون أنه في الرابعة والعشرين, وقد اختطف الشاعر وهو في الخامسة والعشرين من عمره, وهي بداية ميلاد الشعراء عادة لا نهاية أفول نجمهم. كانت ثقافة الشابي تقليدية في جوهرها إذ تعلم في مدرسة الزيتونة ونال إجازتها, ودروسها أشبه بدروس الأزهر, والتحق بالحقوق ولكن الشعر كان طائره الأول وهمه الأكبر فانطلق يبدع لكنه كان قد نفر من التقليدية ومن الاتجاه الذي يجتر القديم فقط دون إضافة, واشرأب إلي الجديد بعد مطالعات في ثمرات التجديد في مصر ممثلة في جماعة الديوان ثم جماعة أبوللو وشعراء المهجر, وأعجب أكثر بجبران خليل جبران مع الاحتفاظ بأصالة لغته ودقتها علي غير جبران, لكن فكر مدرسة الديوان النقدي ومفهومها للشعر كان ذا أثر كبير في اتجاهه الشعري وفي نظراته النقدية, والواقع أن جماعة أبوللو والرومانسيين عموما يغلب عليهم الانطواء علي الذات والتغني بالمشاعر الشخصية واللواذ بالطبيعة والحب, ونادرا ما يلتفتون إلي الموضوعات التي تسمي غيرية, لكن الشابي كان نموذجا متفردا في الجمع بين الاتجاهين, فقصائده الذاتية هي تبرم بالإخفاق والهموم التي تكتنف الوطن, ولذلك انطلق يغني للأمة ويغني للشعب; لأنها همومه الذاتية فهو يغني للشعب لأنه عضو منه وليس خارجا عنه. إذا الشعب يوما أراد الحياة فلابد أن يستجيب القدر وكانت الثورة الأخيرة في مصر وتونس تتخذ وقودها من شعر هذا الرجل حتي علي ألسنة العوام, ومن هنا كان دور الشعر في إذكاء روح النضال والفداء. ويظن بعض الناس أنه لو أفسح لمثله في الأجل لصنع شيئا آخر جديدا ولقدم زادا ثريا في الإبداع لكنني أعتقد أن مثل هذه الطاقات, طاقات انفجارية تعطي كل ما عندها دفعة واحدة مثله في ذلك مثل أبي تمام, وشيللي الإنجليزي, وميجيل كروث إرناندث الإسباني, وغيرهم من الذين مثلوا بروقا تنطفئ وشيكا. وبانتهاء رأي أبو همام نؤكد أن الشابي العظيم انتشل الإنسان العربي من وهدة اليأس الذي كاد يغتال أيامه وأرسل أشعاره وأسقطها كالضوء الباهر علي صخور اعتادت أن تتكسر عليها الأمواج لكنها لا تتزحزح من مكانها.. رحم الله الشابي الذي كان قلبه كأوراق الورد... في شفافيتها وأريجها العطر... وألوانها الزاهية... وسموها وترفعها... وأشواكها الدامية بما مر به من محن وعمرها القصير أيضا.. وإذا كانت نيران بوعزيزي أشعلت الثورات العربية... فإن أشعار الشابي... أضرمت النيران في كل القلوب والأرواح.. فكان بحق... مصباح الثورات العربية... بلا منازع..