في مراحل التحولات الكبري تظهر أسماء وتنطفيء أسماء أخري في كل مجالات الحياة، وقد كان عقد الخمسينات زاخراً بحركات الهدم والبناء خاصة في المجال الثقافي عامة، وفي الشعر بوجه خاص . كان عقد الوداع للمدرسة الرومانسية وتراجع الكلاسيكية وظهور مدرسة الشعر الحديث . وامتلأت الساحة بغبار المعارك ولمعت أسماء شعراء وتشبث آخرون بقوارب النجاة، وفي الإسكندرية كانت كوكبة من الشعراء الذين شكلوا جبهة متماسكة للنظم التقليدي وتضم عبدالعليم القباني وعبدالمنعم الأنصاري ، وأحمد السمرة ومحمد محمود زيتون ومحجوب موسي وإدوارد حنا سعد وشاعرنا أحمد محمود عرفة، ومعظم هؤلاء الشعراء عرفهم جمهور القراء علي امتداد السنوات الأربعين الماضية ولكن الشاعر أحمد محمود عرفة ابتلعه النسيان منذ رحيله في عام 1970، وقبل ذلك كان صوته خافتا ورغم أنه أصدر ديوانين في حياته هما «ظلال حزينة» في عام 1953 و«ألحان من الشرق» في عام 1959 إلا أن الحياة الثقافية لم تلتفت إليه ولا إلي أعماله حتي مات محسورا شاكيا باكيا ومنذ فترة قصيرة أتيح لهذا الشاعر أن تصدر أسرته أعماله الكاملة حيث جمعت إلي الديوانين اللذين صدرا في حياته ديوانين يصدران لأول مرة هما «في دوامة الأحداث» و«علي الطريق الأخضر» وقد عملت مؤسسة البابطين علي إصدار هذه الأعمال الشعرية لتستعيد هذا الشاعر من قبور النسيان، وقد صدرت هذه الأعمال بمقدمة شاملة وعميقة للدكتور محمد زكريا عناني وهو يضع الشاعر بين من يسميهم بجيل الوسط هذا الجيل القادح الأصيل الذي شق طريقه وسط الصخور ولم يصل إلي بر الأمان إلا بعد أن صارع الأمواج، ومع هذا فإنه لم ينل شيئا من مجد الرعيل الأول الذي استأثر بالأضواء واعتبروا من نجوم المجتمع البارزين، لقد نشأ هذا الشاعر وعاش عمره في حي من أحياء الكادحين «حي القباري» وكابد الفقر وعرف صنوفا من الحرف مثل الحلاقة والعمل ببيع الخردوات في محل صغير، وقد تلقي علمه اللغوي فصباه علي يد أحد طلاب المعهد الأزهري الذي لقنه أصول النحو والصرف والعروض، فلم يعد يعرف الدراسة المنهجية واستطاع بموهبته أن يبدع أعماله التي كشفت عن قدرة واضحة علي التعبير والصياغة الفنية والتأثر بالحركة الشعرية في مصر والعالم العربي وكان من الطبيعي أن تضيق دائرة ثقافته ومعرفته اللغوية، فلم يكن يعرف لغة أجنبية ونظرا لوجوده بعيدا عن العاصمة كان حضوره الشعري محدودا بإقليمية الإسكندرية رغم أنه تواصل مع أدباء رابطة الأدب الحديث وكتب أحد روادها مقدمة لديوانه «ألحان من الشرق» وهو الدكتور محمد عبدالمنعم خفاجي، ويري الدكتور محمد زكريا عناني أن آلام وصنوف الحرمان والشفاء قد شحذت طاقة الشاعر وموهبته ولكنها أيضا كانت عقبة في سبيل صعود نجمه، فإن حياته الكادحة قد صنعت منه شاعرا ولكن هذه الحياة قد حالت دون أن يتفرغ كل التفرغ لفن الشعر، ولم تهيئ له المناخ المناسب للمزيد من القراءة وملاقاة العلماء والاندماج في الحياة الثقافية بالإسكندرية والقاهرة، ولقد حاول هذا الشاعر أن يحدد هويته الفنية في تصدير الديوان الأول حيث يقول الشاعر أحمد محمود عرفة: «هذه مجموعة من القصائد أقدمها للقراء من بني وطني خاصة والشرقيين عامة ما بين موضوعية وذاتية، وقد حاولت جهد الطاقة أن أكون مصورا لخواطر اليوم وأحلام الغد فإني كشاعر أحس تبعات جساما نحو هؤلاء المصفدين بقيود الاستعمار الذين أهدرت حقوقهم وحشية الأطماع وبربرية الغرب» إذن فسيجد القارئ لهذه القصائد روحا تقطر بالألم ، وتجيش بالآمال والطموح وما أنا في ذلك إلا رسول قومي أعبر عن اللواعج الدفينة والأحلام البعيدة فلا يسأمني البعض إذا قرأ ما يملؤه لوعة وأسي فإلي جوار ذلك سوف يقرأ ما يحفز ويثير، وإني لأرجو أن أصل إلي قلوب القراء مباشرة دون عائق من تعقيد لفظي أو معنوي، وأرجو ألا أكون مخدوعا فيما تنطوي عليه قصائدي من حيوية ومقدرة علي البقاء الطويل، يقف هذا الشاعر عند مفترق الطرق حيث كانت الرومانسية ترسل أشعتها الأخيرة بينما كانت حركة الحداثة الواقعية تكتسح الواقع الثقافي، لقد كان هذا الشاعر كما يري الدكتور عناني ابنا مخلصا لتقاليد المحلة والتي أولت لذات الفنان مكانة شامخة وجعلت هذه الذات المنبع الأول لتجارب ولكنها دعته كذلك لأن يكون الترجمان لعصره، أما عن حيث الشكل الفني فإن أحمد محمود عرفة واحد من شعراء الجدِّد المتزن والذي يجاري الأشكال السائدة عند الديوانيين والمهجريين وشعراء أبوللو ، كما يجاري طرائقهم اللغوية والتصويرية بما يسن الشاعر فورة شعر التفعيلة الحر، ولم ير ضيرا في أن يعزف من حين لآخر علي أوتار هذه القوالب المبتكرة، وإن ظل علي ولائه في غالب شعره لنهج جيل الوسط الذي ينتمي إليه. وربما كان مجمل القول في القصيدة عند أحمد عرفة أنها وسط في كل شيء ، الطول، الوضوح ورقة الألفاظ والشكل الذي لا يأبي الجديد، لكنه يؤثر التريث في الجانب الأعظم من شعره في فترة الانتقال عادة ما تتلاطم التيارات والمذاهب والاتجاهات حتي يطيح بها تيار قوي كاسح أو حدث مزلزل ينحي عن الطريق كل ما سواه، وفي صوت الشاعر أحمد محمود عرفة تتلاقي أصوات الرموز من الشعراء فنحن نلمس لمحات من صوت أبي القاسم الشابي في وطنياته والأخطل الصغير بشارة الخوري في غزلياته وبعض المهجريين في تأملاتهم جاء صوته جهيرا يناشد الشعب قبل الثورة أن ينفض عنه ركام الخنوع والاستسلام ويهب من أجل الحرية والعزة والاستقلال، كما ناشد الشباب أن ينهض ليحقق لوطنه ما يرجوه من التقدم والازدهار يقول في قصيدة «يا شعب».. «حتام تضرب في الدجي المقرور عاتية خطاك / مستوحش اللفتات مخضوب الخواطر من أساك/ متضجرا، ألم الشعور طوي النعيم وما طواك/ وتري البروق تظنها نعمي فتوسعها مناك/ فإذا بها ضحكات سخرية تطل علي سُراك/ تمضي بنفسك كاللهيب علي ذوائبه الهلاك/ يا شعب فكر واقرأ العبر الصريحة في الأمم/ سر في طريق الناجحين الهانئين علي القمم/ المرخصين دماءهم يوم الفخار وقد أزم/ الواقفين علي الحياة نجومها تطأ الظلم»، وكأي شاعر رومانسي يعاني الأسي والحزن في كثير من مواقف الحياة نراه يعلن عن وحشته في قصيدة وحشة حيث يقول أحمد محمود عرفة: يا أخي إن أطقت فامح اكتئابي/ وأنر ظلمتي وكشف عذابي/ أنا في وحشة غريق علي اليم.. تلقاه عنفوان العباب/ والضباب الكثيف يجثم في الأفق .. كسيل ينصب في أعصابي/ وغضوب الرياح تعول كالهول.. وقد جاء منذرا بالعقاب/ وبنات الأمواج حطت عليها .. خائفات من عاصف جواب/ رسمت تحتها قبورا وأنَّت.. بصلاة وودعت بانتحاب. وإذا كانت الوحشة تعبيرا عن عزلة وانفراد يحسه الإنسان في داخله كذلك الاغتراب يحسه الشاعر وسط المجتمع الذي يعيش فيه هو شاعر مغترب مستوحش تضيق به الأرض التي يمشي عليها يقول الشاعر في قصيدة الغريب: في سحيق الدهور صورت روحي .. ثم أودعتها معاني الطموح/ حفلت بالمشاعر الهوج حتي .. لتراها كمهجة المذبوح/ فهي بالأرض برة وهي بالأفق .. مرارا تسير سير الجموح/ تنأدي إلي الأثير فتحيا .. لحظات ما قدرت في السفوح/ أنا روح السماء تنكرني الأرض.. وإن جئتها بثوب النصيح/ كم تقربت للوري فتفادوا .. خطواتي وأوغلوا في الجنوح/ فلمن أسكب المعاني نورا.. في سطور من البيان الفصيح. لقد ازدحمت أعماق الشاعر بكثير من الهموم والقضايا والمشكلات والأحلام ولكن قلبه ظل يخفق كذلك بالجمال يهفو إلي الحب وإلي المرأة الجميلة وفي ديوان الحان من الشرق يناجي سلطان الجمال فيقول: ابسمي واطربي فإن البرايا.. تتملي الربيع في وجنتيك/ واسعدي قدر ما تحبين إنا.. قد رأينا الجمال يحنو عليك/ وتثني فالناس بين سكاري.. وأساري قلوبهم في يديك/ وأشيري فالروح رهن التفات .. واغمرينا بالسحر من مقلتيك/ واسكبي في الرياض عطرك حتي .. تتغني ما بين زهر وأيك / واعصري للنديم كرم شباب .. فلذيذ الشراب في شفتيك/ واجلسي ساعة إلينا فإنا .. ملأتنا الأشواق ميلا إليك/ قد تركنا أحلامنا في حياة.. وغنينا بلمحنا جنتيك/ ونسينا الزمان إلا زمانا.. نورته اللحاظ من جفنيك/ فاذكري المعجبين إنا فراش.. جذبته الحياة في ضفتيك. إن صدور الأعمال الكاملة للشاعر السكندري أحمد محمود عرفة يؤكد أن نفض غبار النسيان عن المواهب المطمورة يعد إنصافا لهؤلاء الذين ظلمهم عصرهم ونسيهم عصرنا ويرشح هذه الأعمال لإثراء حياتنا وتجديد الدماء في شرايين الحركة الشعرية وإحياء الأمل لدي الأجيال الجديدة في المستقبل كما يشجع أسر الشعراء الراحلين علي السعي الحثيث لإنقاذ تراثهم وإحياء ذكراهم وهكذا تزدهر الحياة ويواصل الشعر مسيرة الإبداع الحقيقي.