الدستور هو القانون الأساسي, وهو العقد الاجتماعي, فلسفته كلية ومبادئه عامة وأحكامه شمولية, يساوي بين مراكز المخاطبين به. والدستور وثيقة حاكمة جامعة مانعة يستمد فلسفته وأصول مشروعيته من تراث الأمة وموروثاتها المتجذرة عبر تاريخ ممتد تتناقله الأجيال ويشكل وجدانها ويصوغ ضميرها الجمعي, من ناحية; من واقع المجتمع وتقدير موارده وقدرته علي تفعيل امكانياته, من ناحية ثانية; من رؤية المجتمع لنفسه وأهدافه الاستراتيجية وتطلعاته واستشرافه للمستقبل ولموقعه في عالم متغير, من ناحية ثالثة; من روابط الدولة والمجتمع الجغرافية والتاريخية والاجتماعية والسياسية والمصالح الحيوية مع الغير, من ناحية رابعة, ومن التوافق مع المبادئ العامة التي أرستها المواثيق الدولية المعتبرة, من ناحية خامسة وأخيرة.. تلك في مجملها وتفاعلها تشكل هوية الدولة, بروافدها وموروثاتها المختلفة والمتعددة, وكذا هوية المجتمع والأفراد المشكلين لنسيجه. هكذا, جاء مشروع الدستور المصري الذي أعدته لجنة الخمسين, والذي تحدد طرحه للاستفتاء الشعبي العام عليه يومي الرابع عشر والخامس عشر من يناير.2014 لقد أكد المشروع في ديباجته وفي مضامين مواده علي الهوية المدنية للدولة المصرية, وهوية مواطنيها وانتماءاتها العربية والاسلامية والافريقية والأسيوية, وأن مصر, بهكذا تاريخ وروافد, تتفاعل بقوة وندية مع النسيج العالمي والحضارة الانسانية. أسس مشروع الدستور مرتكزات معاصرة لدولة قوامها العدل الاجتماعي والحرية المحصنة بسيادة الشعب وسلطان الدستور والقانون وثوابت ومقومات الرضا العام ركيزة الحكم الرشيد. لقد ألقي المشروع بثقل خاص علي مبدأ المواطنة علي نحو يجعلها الشريان الذي يغذي مواد الوثيقة ويجري في عروقها. انتصر للشعب بكل فئاته; للوحدة الوطنية بنسيجها الواحد; للشباب والعامل والفلاح; للمرأة والطفل; للمنسيين والمهمشين ذوي الاحتياجات الخاصة وكبار السن; للمعلمين والباحثين في المدرسة والجامعة والمختبر, وأعلي قيمة القضاء الواقف متمثلا في مهنة المحاماة, فجاء شاملا لم يترك صغيرة أو كبيرة الا وأحصاها وتناولها باهتمام وحرفية. ثلاثة تيجان يلتحف بها مشروع الدستور وتميزه بين سوابقه المصرية, حال اقراره. التاج الأول يكمن في فلسفة المشروع وعمومية تطبيقها وشموليتها وفي روحه العامة. ويتمحور ذلك حول الهوية والكرامة والمواطنة التي تمثل القواعد الذهبية المؤسسة لبناء الانسان, ضمير المجتمع وركيزة الدولة; والثاني يتمثل في الحقوق والحريات والواجبات العامة; أما التاج الثالث فتجسده ثمانية وأربعون مادة مستحدثة تتصل باستقلال الأزهر الشريف ورسالته ودوره, وحقوق المرأة والطفل, والصحة والرعاية الصحية المتكاملة ورفع كفاءتها, والزام الدولة تخصيص3% من الناتج القومي الاجمالي للانفاق عليهما, تتصاعد تدريجيا حتي تتفق مع المعدلات العالمية. كما ألزمتها تحسين أوضاع الأطباء وهيئات التمريض والعاملين الآخرين في هذا القطاع. واللافت للنظر هنا, بصفة خاصة, ما تضمنه المشروع في مواده من التاسعة عشر وحتي الخامسة والعشرين في خصوص التعليم والبحث العلمي والمعلمين والباحثين وقضية الأمية. وكأن المشرع الدستوري قد اعتبر أن تلكم الموضوعات تمثل في مجملها الأولوية الكبري للمشروع القومي الأهم ولتفعيل فلسفة ومبادئ وأحكام مشروع الدستور, حال اعتماده, فألزم الدولة دستوريا تخصيص4% من اجمالي الناتج القومي للانفاق علي التعليم الالزامي, الذي امتد ليشمل المرحلة الثانوية, ونسبة2% للانفاق علي التعليم الجامعي, و1% للبحث العلمي, مع تصاعد هذه المخصصات تدريجيا لتتفق مع المعدلات العالمية. كما ألزمها تشجيع التعليم الفني والتقني والتدريب المهني والتوسع فيه وتطويره, وفق المعايير العالمية للجودة, وبما يتناسب مع احتياجات سوق العمل. وألزمها كذلك وضع خطة شاملة للقضاء علي الأمية بشقيها الهجائية والرقمية. وفي مجمل السياق المتقدم, تجدر الاشارة الي أمرين نحسب من الأهمية التوقف عندهما: غياب الزام الدولة وضع سياسة للتعليم العالي والجامعي تحقق الربط بين مدخلاته ومخرجاته ومتطلبات خطط التنمية وأسواق العمل المستهدفة التنافسية من العمالة المصرية, مع وجوب التنسيق في ذلك مع المؤسسات المعنية باعداد وتنمية الموارد البشرية. ان استمرار تحمل الدولة نفقات التعليم العالي والجامعي يشكل عبئا علي اقتصاد يعاني من عدم كفاية الموارد, كما ساهمت تلك السياسة في تدني مستوي التعليم وافتقاد معظم مخرجاته التأهيل للمنافسة في دوائر أسواق العمل. نحن في حاجة الي سياسة تربط مجانية التعليم العالي والجامعي, كاملة أو جزئية, وامكانية استمرارها, بمعايير التفوق والابداع. ان هذا الالتزام, في صورته الحالية, يتعارض مع ديمقراطية التعليم التي تفرق بين عمومية الحق فيه, بالاتاحة, وخصوصية الطريق اليه, بالتفوق ومراعاة الفروق الفردية, وفق معايير نوعية معتمدة تستوجب التشجيع والتحفيز والمكافأة. هذه السياسة ارث ظروف تاريخية هي ذاتها التي استحدثت نسبة ال50% لتمثيل العمال والفلاحين في المجالس التشريعية, وألزمت الدولة بالتوظيف علي اطلاقه, وفتتت الرقعة الزراعية, وكلها سياسات ثبت فشلها بكل المقاييس. اننا أمام صورة واضحة لاساءة توظيف الموارد المحدودة, واهدار استثمار المال العام رغم نبل الاستهداف. هكذا, نحن أمام مشروع دستور الكرامة والمواطنة والحرية والعدل للجميع, يسقط جمهورية الاخوان الفاشية, قصيرة الأجل, ويرسي بناء الجمهورية الثالثة التي تولد يوم اقراره. به تتحدث مصر عن نفسها والي أبنائها والعالم. هذا انجاز مصري عبقري يقترب من الكمال البشري, يجسد ثقافة وفكر وفلسفة وعقل وضمير مصري متوهج يمتلك القدرة علي الابداع. انه, وبحق, مشروع دستور القرن, يليق بمصر القيمة والقامة, تهديه نموذجا لعقد اجتماعي متقدم تباهي به الأمم. والتصويت عليه بنعم هو في حقيقته انحياز للارادة الجمعية المتحررة لشعب يعظم هويته ويعلي موروثاته; يعي حضارته ويقدرها; دحر الفاشية بكل أشكالها; مصمم وقادر علي هزيمة الارهاب الأسود الملتحف عباءة الدين, والدين منه براء; يصر علي بناء مصر معاصرة ومغايرة, وعلي استعادة موقع الاستحقاق في عالم اليوم والمستقبل... لمزيد من مقالات د.عبد الحافظ الكردى